لم تتخلف عن الحضور اليومي إلى باب المحكمة (القصرالعدلي بدمشق) منذ سنتين ونيف
إم عماد امرآة في العقد الخامس من عمرها ، لكن الهموم والألام حفرت أخاديد عميقة على وجهها الفراتي الأسمر، بعباءتها الكالحة وغطاء رأسها المائل وعينيها الذابلتين المترقبتين تحط رحالها كل يوم باكراً على رصيف المحكمة تتابع بلهفة الشاحنات المحملة بالمعتقلين ،الداخلة إلى الساحة الكبيرة,تبدأ يومها بفيض من الحيوية الممزوجة بالتوتروالشوق ثم يمضي الوقت ثقيلاً هادماً لهفتها وانتظارها مولداً يأساً لايزول ومرارة فقد لا تغادر، لتعود في اليوم التالي بأمل جديد واشتعال زاهٍ ، فتنتهي كما انتهت في اليوم السابق.
أم عماد هجرت الراحة وهجرت مدينتها دير الزور بحثاً عن عماد طفلها الذي اعتقلته قوات الأمن العسكري في ديرالزور إثر حملة عشوائية مجنونة , لم يكن قد أتمَّ الرابعة عشرة من عمره (يومها) ولم يكن قد بقي من أقاربه من يتابع غيابه فيبحث عنه.
بيتها الذي تركه زوجها الشهيد باعته ب(تراب المصاري) علها تحرر ابنها وتعيده إلى حضنها (المصاري تجي وتروح بس الولد حرام يروح وما شاف شي من حياتو) قصص رفيقات الرصيف ورواياتهم كانت تخفف عنها كثيراً وتدعمها فتصبر وتحتسب ، تمضي ليلها بالصلاة والاستخارة والأدعيات ، ونهارها بالبحث والترقب والتفاوض الغير مجدي مع سماسرة الأرصفة
لكن الصور التي انتشرت كالنار في الهشيم صور قيصر في تقارير موثقة عن جرائم الأسد والتي تناقلتها الصحف ووكالات الانباء ، تلك التي أثارت الكثير من الغضب والشجب وقدمت إلى المحكمة الجنائية الدولية كأدلة على جرائم ضد الإنسانية دفعت بها إلى حافة الجنون أياماً طويلة كانت تنتقل من رفيقة إلى أخرى كل يوم تسألهن عمن رأت الصور تمد يدها بصورة ابنها التي لا تغادر راحة يدها
– هل رأيتن بين الجثث من يشبه ابني ؟
ثم تتابع الصور واحدة واحدة منتبذة زاوية قصية مع أم سمير على هاتف الأخيرة المحمول ، تدقق في الصور كثيراً ، تقرب الهاتف حيناً وتبعده حيناً ، تنظر بخوف إلى العساكر عند الباب الرئيسي ، تمسح المكان بطرف عينيها واجلة ،
– – كبري لي هذه الصورة
تفتح عينيها ثم تزمهما ، تنظر بدقة ، تعاين التفاصيل ..
– هذا كبير ,ابنك أصغر منه بكثير..!!
– لكنه يشبهه كثيراً , سنتان ونصف يا أخيه ربما تغير شكله
– قد يكون …,لكن هذا في الثلاثين أو أكثر…
تقلب الصور ثانية ,الدموع تحجب المشهد ..واليأس يقطع التأمل..
تغلق الهاتف ثم تناوله لأم سمير.
-الشاحنة البيضاء تقترب يبدو أنها قادمة من الأمن العسكري،
تقف جميع النساء ، يقتربن من الباب
تقترب أم عماد كثيراً، تُفلِّي المعتقلين القابعين في مقاعدهم في الشاحنة محنيِّي الرؤوس والظهور ،
يد في آخر الشاحنة ترتفع ، رأس شاب يومئ من بعيد يلحّ في هز يده
يلح في لفت الانتباه إنه يقصد واحدة منهن ، تتنبه أم عماد لليد ، تقترب من الزجاج تزم عينيها المتورمتين من السهر والبكاء
تقترب أكثر، تسير الشاحنة ببطء
يفتح الباب الرئيسي ببطء، تلتصق أم عماد بوجهها بالزجاج، ينتبه الضابط المرافق للشاحنة
يميل برأسه نحو آخر ركاب الشاحنة ، يلج الممر مسرعاً ، يقترب من صاحب اليد ، يشتمه ، يسبّه ، ثم يهجم عليه بعقب البارودة
ضربتان على الرأس ، تخمد اليد ، ثم يهتز الرأس ، يرتفع مضمخاً بالدم ، ثم يهدأ وتسكن حركته تماماً ،
تصرخ أم عماد تولول كلبوة جريحة و تلج السيارة الباب الرئيسي مسرعة..
– وليدي ، وليدي ..!!
تقع على الأرض وهي تتمتم : (إلو شوارب ، وليدي كبران ، صاير زلمة ، صايرو لحية وشوارب ، وليدي زياد جنين قلبي)