منذ إعلان تنظيم داعش عن نشأته في سوريا ، انتهج خططاً مدروسة و موضوعة بعناية بهدف نشر خلافته المزعومة ، جلّ هذه المخططات كانت موجهة باتجاه المجتمع بغية هدم مرتكزاته و إعادة بنائها من جديد بما يوافق المشروع المتطرف الذى سعى له تنظيم داعش .
و من المعلوم أن اللبنة الأساسية لكل المجتمعات هي الطفل ، فكانت شريحة الأطفال من أهم أهداف تنظيم داعش في عملية توطيد أركان سيطرته داخل الأراضي السورية ورسم خططه المستقبلية المستندة على الأطفال المستهدفين من قبله .
عمل تنظيم داعش على استقطاب الأطفال واستغلال عدم اكتمال نموهم الفكري في جذبهم إلى مستنقع التطرف الذي يرعاه ، فكان التأثير الداعشي على الأطفال في مناطق سيطرته يرتكز على محوريين ، أولهما هو التأثير المباشر و ذلك عبرجذب الأطفال وتجنيدهم في صفوفه و العمل على تغيير مفاهيم التفكير و القيم لديهم و زرع بذار التطرف الداعشي فيهم عبر أدوات و وسائل مدروسة كالدورات الشرعية و العسكرية المخصصة .
أما المحور الثاني فهو التأثير اللامباشر ، أو الأثر الذي تتركه أساليب و أفكار التنظيم على الأطفال عبر ممارسات توطيد السلطة القائمة على إراقة الدم و مصادرة الحريات .
و عن أساليب تنظيم داعش في غسل الأدمغة و استقطاب الأطفال ، يروي السيد عمر من بلدة بقرص في ريف ديرالزور الشرقي ما حصل مع أخيه كريم ذو الثلاثة عشر عاماً عندما استجره التنظيم و جنّده في صفوفه ، يقول السيد عمر :
” تعود القصة إلى شتاء عام 2017 ، حين كان تنظيم داعش يسيطر على كامل محافظة ديرالزور ، عندما أصبحت مجموعات من التنظيم تقيم في مسجد الحي مسابقات و أنشطة توزّع من خلالها الهدايا على الأطفال ، و كانت الهدايا عبارة عن ألعاب أطفال على شكل أسلحة بلاستيكة و ألبسة أطفال عسكرية تدعى (الباكستانية وهي لباس عناصرداعش ) ، أصبح كريم ينتظر بشغف موعد قدوم المجموعة لينال جائزته كما كل مرة ، تطوّر الأمرعند كريم عندما أصبح يطبق نصائحهم بحضور دروس دينية بشكل يومي بعد صلاة المغرب في مسجد الحي ، لنكتشف لاحقاً أنّ مع الدروس التي كان أكثر حضورها من الأطفال كان عناصر التنظيم يعرضون عليهم بشكل يومي عبر شاشات مخصصة إصدارات تنظيم داعش المملوءة بالقتل و النحر و الدماء ويقدمون كل إصدار على قرص مضغوط ( سي دي ) لكل طفل ليشاهدوه أكثر من مرة ، دام هذا الإلتزام من قبل كريم لعدة أسابيع و كنا نعتقد أنه يأخذ دروس دينية فقط ، حتى جاء ذلك اليوم الذي ذهب فيه كريم كعادته إلى صلاة المغرب و لم يعد بعدها ، لم يكن في منزلنا سوى النساء و الأطفال و أكبرهم كريم ، حيث أنّ والدي متزوج من إمرأتين والدتي و أمُ كريم ، والدي يعمل في المملكة العربية السعودية وأنا هاجرت إلى ألمانيا منذ الأيام الأولى لسيطرة داعش على ديرالزور , بعد غياب كريم المفاجئ جُنّ جنون والدته على وحيدها ( كريم هو الإبن الوحيد لزوجة أبي أم كريم ) ، فجالت المدن بحثاً عنه من الرقة إلى القائم في العراق فالبوكمال و الميادين و جميع المدن التي يوجد فيه ثقل للتنظيم , لكن دون جدوة ، ظلّت على هذا المنوال قرابة الشهرين و النصف ، فبدأت تراجع مقرّ الإنتساب في مدينة الميادين بشكل يومي و تحمل معها كل مرة تذهب فيها إلى المقرّ دفتر العيلة لتثبت لهم أنه وحيدها علاوة على أنه طفل لم يتحاوز الثالثة عشر ، و في إحدى المرات قال لها أحد مسؤولي المقرّ و كان من المغرب العربي حسب لهجته ” خذي هذه البطاقة نحن نعطيها لذوي الشهداء كإعانة لهم علّها تعيلك بدل ابنك ” ، رجعت أمّ كريم مكسورة من كلام الرجل و أرسلت لي مقاطع صوتية تدمي القلب عن ما تعانيه بغياب طفلها ، بعد أيام ذهبت أم كريم إلى أحد القياديين العسكرين في تنظيم داعش من قرية الزر تطلب منه خبراً مؤكداً عن ابنها التي بعد أن وصلتنا أكثر من إشاعة عن مقتله في معارك التنظيم ، و عرضنا على هذا القيادي مبلغاً من المال قدره مليون ليرة مقابل الحصول على خبر مؤكد عن كريم ، فكان جوابه لأم كريم أن انتظري عدة أيام ، و بالفعل بعد ثلاثة أيام أرسل إلينا بمرسال يقول أن ابنكم كريم بمعسكر في منطقة عقيربات التابعة لمحافظة حماه ، و أنه سيأتي بعد أسبوع بعد إنهاء المعسكر هناك ، و بالفعل بعد أسبوع عاد أخي كريم إلى المنزل و كان يريد العودة إلى صفوف التنظيم بعدما كان دماغه متعرض لعملية غسيل تام من حيث المنطق و التفكير و السلوك ، لكننا تمكنا من السيطرة عليه و إقناعه عبر تقديم الإغراءات التي يحبذها كل طفل كالألعاب الإلكترونية و جهاز اللابتوب و كل ما يطلبه “.
خطوات مدروسة بأدق التفاصيل ترتكز بشكل رئيسي على غسيل الأدمغة و الترغيب استخدمها تنظيم داعش لاستقطاب أطفال ديرالزور , فكانت الفرق التابعة للتنظيم تنشط في المحافظة عبر إقامة النشاطات و المسابقات التي يتم من خلالها استخدام الأسئلة الدينية التي تدفع الطفل للتعلم أكثر بهدف الإنتصار في المسابقة و الحصول على الجائزة , أما الخطوة الثانية التي تلي المسابقات فكانت الدروس الدينية في المساجد والتي يتخللها استعراض المعارك و الإصدارات الداعشية و غرس الأفكار الداعشية في عقول الأطفال لتسهيل عملية تجنيدهم في صفوف التنظيم.
أما أبو خليل الشاب الثلاثيني من مدينة ديرالزور ، فيروي لديرالزور ٢٤ قصة اختفاء أخيه الطفل الذي لم يكمل الثالثة عشر من العمر ، يقول أبو خليل :
” كان أخي عبدالله في الصف السادس الإبتدائي عندما توقف عن الذهاب إلى المدرسة بسبب إغلاق كافة المدارس في المنطقة ، مع قدوم تنظيم داعش و سيطرته على مدينة الميادين التي نزحنا إليها بعد اشتداد قصف قوات الأسد على أحياء المدينة ، بدأنا نلاحظ تأثر عبدالله بالوافدين الجدد ” عناصر التنظيم ” ، فكان يردد أناشيدهم الخاصة ، و يقلّد أساليبهم في اللباس بتقصير البنطال و ارتداء الملابس الفضفاضة ، لم نأخذ الأمر على محمل الجد ، فلم يتعدَ الأمر لدينا موضوع تقليد الأطفال للأشياء الغريبة التي تمر بحياتهم ، حتى تفاجئنا في أحد الأيام و كان تاريخه الدقيق 17-1-2015 حين استيقضنا من النوم و لم نجد عبدالله في المنزل ، و قد ترك لنا رسالة ورقية مفادها أنه التحق بصفوف التنظيم من أجل القتال في صفوف تنظيم داعش و أنه غادر بهذه الطريقة لعلمه بأننا لن نسمح له بالذهاب لو أخبرنا مسبقاً ، علمنا لاحقاً أنه ذهب مع أحد أبناء الجيران بنفس عمره والتحقا بصفوف التنظيم ، اختفى عبدالله منذ ذلك الوقت و لم نسمع عنه أي خبر حتى و صلتنا أخبار بعد مايقارب السنة و نصف من غيابه أنّه التحق بصفوف تنظيم داعش و نقلوه إلى العراق و قد نفذ عملية انتحارية هناك و فارق الحياة “.
استخدم تنظيم داعش جماجم أطفال ديرالزور كأحجار أساس لبناء سلطانه الذي سرعان ما تهدم و بدأت الحقائق و الروايات و الخفايا وراء جرائمه تتوارد و تتكشف شيئاً فشيئاً.
يتحدث الأستاذ أحمد العبد من أبناء مدينة العشارة بريف ديرالزور الشرقي لديرالزور24 عن تجربة مرّ بها أثناء سيطرة تنظيم داعش على مدينته , يقول الأستاذ أحمد :
” اصطحبت ابني محمد ذو الثلاث سنوات معي إلى سوق البلدة لشراء بعض الأغراض و المواد الغذائية ، وضعته أمامي على دراجتي النارية و انطلقنا قاصدين سوق البلدة ، مع وصولنا إلى السوق ، طوق عناصر تنظيم داعش المكان و ذاعوا عبر مكبر الصوت أنهم سيقومون بتنفيذ ” قصاص ” بحق أحد المحكومين و أنّ جميع من في السوق عليهم حظور تنفيذ القصاص ، لسوء حظي كنت في الصف الأمامي لتجمهر الناس ، و ماهي إلا دقائق و بدأت مراسم تنفيذ الحكم ، حالة من الإضطراب و قلة الحيلة و القلق أصابتني ، فكيف سيشاهد طفلي هذا المنظر ، و كيف لعقله الصغير أن يستوعب هذا المشهد الدموي ، بعد البروتوكولات التي تسبق عملية القتل ، بدأ السيّاف بحز رقبة شاب عشريني مغلق العينين بسكين حادّة وراحت الدماء تنفر من جسده بمنظر تقشعر له الأبدان ، بدأ ابني محمد بالبكاء عندما شاهد هذا المنظر لكنني لا أستطيع حتى أن أغمض له عينيه ، لأن مصيري من الممكن أن يكون كمصير هذا الشاب الذي طار رأسه عن جسده بطرفة عين إذا ما لاحظني أحد عناصر داعش وأنا أغمض له عينيه ، و منذ ذلك الحين و حتى هذا اليوم ، أصيب ابني بنوبات بكاء فجائية ترافقها حالات غير منتظمة من الاستيقاظ المفاجئ من النوم و تبول لا إرادي “.
كانت شريحة الأطفال المتضرر الأكبر من سياسة تنظيم داعش الدموية القائمة في أحد أركانها على استراتيجية استقطاب الأطفال و تجنيدهم و استخدامهم كوقودٍ لحربهم الساعية لإقامة دولة تسودها خلافة أسست على إراقة الدم و نشر الخوف بين المسلمين قبل غيرهم ، فاستخدمت آلة داعش الإعلامية الخبث و المكر في دس المفاهيم التي من شأنها إلقاء غشاوة على عيون وأدمغة الأطفال ليكونوا أدوات سائغة تحت تصرف التنظيم ، فكثف داعش من الإصدارات التي يظهر فيها الأطفال كأبطال لأقرانهم عبر تقليد ما يقوم به عناصر التنظيم من عمليات قتل و جزّ رؤوس الضحايا و التمثيل بالجثث ؛ حتى وصل بهم الأمر في أحد الإصدارات إلى إظهار طفل في سن السادسة من العمر يحمل مسدساً و يطلق النار على رؤوس أربعة رجالاً مقيدين و يجلسون على الأرض.
استطاع التنظيم من خلال خططه و استراتيجيته باستهداف الأطفال من استقطاب آلاف الأطفال في أماكن سيطرته ، و أقام لهم المعسكرات الخاصة و أطلق عليهم مسمى ” أشبال الخلافة ” و استخدم معظمهم لاحقاً في معاركه.
يقول السيد محمد الإبراهيم من ديرالزور وهو أب ل٥ أطفال أكبرهم ضياء البالغ من العمر ١٤ عام :
” ذهب ابني بدون موافقتي و التحق بصفوف تنظيم داعش ، في الشهرين الذين بقي معهم في معسكراتهم لم نكن أنا و أمه ننام ليلنا خوفاً على ابننا الذي لايزال طفلاً ، و لم يكن لدينا أيّ حيلة لتخليصه من هذا المأزق الذي لا يقدر ابني مدى خطره ، تمالكت نفسي و أصبحت أضع الخطط لإنقاذه ، بعد شهرين من غيابه عاد إلى البيت بعد أن أعطوه إجازة لمدة أسبوع بعد انتهاء المعسكر الأول ، على الفور قررنا أنا و والدته الهروب به إلى خارج مناطق سيطرة داعش ، قلنا له أننا سنذهب إلى مدينة الرقة لنزور بيت خالتك ، و من هناك اتفقت مع مهرب أوصلنا إلى ريف حلب و أصبحنا خارج متناول التنظيم ، لتبدأ مسيرتي في مسح ما علق في ذهن طفلي من شوائب داعشية كانت لتقضي عليه لولا لطف الله “.
أما السيد حازم العلي ، من سكان مدينة ديرالزور و كان نازح في بلدة صبيخان في ريف ديرالزور الشرقي ، فيروي لديرالزور 24 ، ما يعانيه ابنه محمد ذو العشر سنوات ، يقول :
” عشنا في ظل سيطرة تنظيم داعش ما يقارب السنتين ، كان عمر ابني محمد حينها سبع سنوات ، سكن في البناية التي كنت أستأجر فيها عناصر من تنظيم داعش يطلق عليهم اسم ” المهاجرين ” ، و كان محمد يشاهدهم كل يوم عندما يلعب مع أصدقائه بالحارة ، في يوم من الأيام جاءتنا دورية تابعة لجهاز ما يسمى ب ” الحسبة ” و طلبوا منا إفراغ المنزل الذي نسكنه كوننا مستأجرين و نازحين من المدينة بدعوة أنّ أحد المهاجرين من دولة ” المغرب ” يريد أن يسكن في المنزل بعد قدومه و عائلته من الرقة ، و أعطونا مهلة يومين لإفراغ المنزل ، كان أطفالي يراقبون بصمت الحيرة و الظلم الذي تعرضنا له ، جاء الموعد و لم نؤمّن منزلاً بديلاً للسكن ، بتنا ليلتين في أحد دكاكين البلدة و خرجنا بعدها قاصدين تركيا ، استطعنا وصول تركيا بعد شهرين من طردتنا من صبيخان من قبل عناصر تنظيم داعش , وبعد مرور فترة على هذه الأحداث ، و بعد ثلاثة شهور من وصولنا إلى تركيا ، أصابت ابني محمد حالة غريبة ، حيث بدأ يستيقظ ليلاً بشكل مريب ، يتكلم و هو مغمض العينين بحديث غير مفهوم وكأنه يتكلم مع شخص لا نعرف من هو ، و أحياناً يجهش بالبكاء و ملامح الخوف على جميع أعضائه ، استشرت الكثير من الأصدقاء فأشار عليّ صديق بمراجعة أخصائي نفسي.
“خاص ديرالزور24، إحدى روسومات الطفل محمد”
مع الأخصائي اكتشفنا أن ابني محمد يعاني من حالة نفسية مبنية على الخوف من عناصر داعش , حيث أنّ في مخيلة الطفل هم لا يزالون يلاحقونه و لم ينتهِ منهم ، اكتشف المعالج النفسي هذا الأمر بطريقة غير مباشر عندما لاحظ على رسومات محمد غالبية اللون الأسود ، و في عدد من رسومه كان يرسم ( الدبابة ، السلاح بأنواعه ، و أحد الرسومات كانت لشاب ذو شعر طويل و شعر ذقن طويل أيضاً يلبس لباس مشابه للباس عناصر داعش ) “.
خرّب تنظيم داعش مجتمعاً بأكمله ، طعن ثورة عظيمة و هدم قيم و أفكار مجتمعية و استبدلها بقيمٍ أخرى مسمومة ، و عمل جاهداً على مسح عقول الأطفال في المناطق التي سيطر عليها ، ممانتج عنه مقتل المئات منهم عبر استخدامهم كوقود للمعارك التي خاضها ، إضافة إلى الخطر الذي لايزال قائماً إلى الآن و المتعلق بالأثر الذي خلّفه التنظيم على سلوك الأطفال و طرق تفكيرهم ، علاوة على الأذية النفسية التي خلفتها دموية داعش على أعدادٍ كبيرةّ من أطفال ديرالزور الذين عاصروا فترة سيطرته على المحافظة و ما رافقها من ممارسات قمعية و دموية و ترهيبية سببت لهم أثار نفسية سلبية ربما لن يزول أثرها في وقت قريب .