This post is also available in: English
الأميرة الفراتية – ديرالزور 24
سألتها وقد كانت تنظر للسماء بحزن، بقدر ما امتلأت بالألعاب النارية وضجت الدنيا بأصواتها، التي تذكرنا بصوت القصف المريع على بلادنا الغالية.
بدأت الحديث وهي تقول:”دخل العام الجديد سيدتي، هل أبارك لك وللعالم لأحقق ما تبقى من الحلم بعودة الأمان للوطن، نعم سيدتي مازال لدي الأمل بتحقيق الحلم الجميل كألوان هذه الالعاب النارية، على الرغم من كلّ ما حدث.
وحدها الأحلام عصية على أسلحة العالم، الأحلام التي تنمو بماء الحريّة، الأحلام التي ترفعنا كلما انهارت قناعاتنا، هي التي تربت على أكتافنا كي لا يأخذنا الوجع بعيدا، الآن علينا أن نتمسك بالحلم.
– سألتها عن الواقع وبعيداً عن الحلم عن العام الجديد ردت قائلة:
عامٌ بعد عام، يزداد الواقع قسوة، ينهار كل ما حولنا بحيث لا تكفي ما نملك لننتظر الغد.
-قلت لها وما قولك بالعالم الذي يرتكب كل الجرائم التي عرفها التاريخ بحق البلد؟
قالت : ليس آخر الأمر القتل، وليس أوّلها تجاهل العالم الذي يجرّب تغيير كلّ شيء بنا وعلينا، أنه يصنع الأعداء ويرسلهم إلينا.
– وما رأيك في مصير عائلتك التي غابت عنك ولم تستطيعين فعل شيء لمن قتلهم ?
ضحكت بمرارة وردت علي بسرعة
– لا أحد يسأل السوري عن رأيه في مصيره..
سألتها عن حجم الفقد في حياتها ؟
قالت :الحرب تطحن كلّ ذكرياتنا وتفاصيل أيامنا في الغربة، فقدت الكثير سيدتي بدءا من تراب حديقتي وانتهاء بأهلي وعائلتي، التي غيبها الموت من جهة والغربة.
من جهة أخرى، نجوت أنا وزوجي وطفلي وأخي الجريح واستطعنا العبور الى تركيا، وبدأت رحلة الاغتراب المريرة والتي استطعت تجاوزها بضحكة صغيرة من شفتي طفلي التي أرى فيه كل أحلامي.
كنت أوفق بين بيتي وبين زيارة أخي الجريح في المشفى، الذي كانت حالته سيئة بسبب التهاب الجرح وتأخرنا على مداواته، وذلك لأننا تأخرنا بالدخول الى المشفى لعدم استقبال المرضى السوريين الا بالبطاقة الشخصية التي تصدرها ادارة الهجرة، وفي حال الحصول عليها سارع الطبيب الى بدء العلاج ولكن يبدو أنه فات الأوان ولم يبق لدينا سوى الدعاء له والتخفيف عنه.
سألتها وماذا عنك وعن حياتك وزوجك وطفلك؟
قالت : حياتي؟ حين أذهب للبيت أعمل بسرعة لكي لا اقصر مع زوجي وطفلي وبيتي، ويبقى فكري مشغول مع وضع أخي الذي لا أمل منه على ما يبدو.
مرت الأيام والأسابيع وازداد وضعي سوءاً، تغير شكلي ونحل جسمي وليس من معين، بدأ الأمر يسوء بيني وبين زوجي بسبب اهمالي لنفسي ولم يعد لدي وقت للاهتمام.
– وماذا عن زوجك ؟هل كان يزور أخوك في المشفى؟
– قالت في البداية نعم ولكنه ملَّ في النهاية وابتعد، أصبحت له حياته الخاصة بالإضافة الى عمله في احدى المصانع كان يرتب نفسه ويتعطر كل صباح ويشرب قهوته برواق غريب ويتأخر ليلاً ويسهر في الاماكن العامة.
– سألتها : وهل حاولت تغيير تعاملك معه قالت لم يعد يهمني شيء وانا أرى حالة أخي تزداد سوءاً.
– حتى جاءني في إحدى الليالي متأخراً وكانت لديه علامات السكر بشكل فظيع، طلب مني أن أكمل السهر معه وان أتجمل وأرقص على اغنيته المفضلة.
– حدقت في وجهه طويلاً واقتربت منه بحذر وانا أشم رائحة المشروب المقيتة، وسألته هل تشكو شيئا؟، هل أحضر لك العشاء، هنا صرخ بوجهي قائلا ألا تفهمين؟ ما بك ؟ تحركي فهل تحسبين نفسك أمرأه من بين النساء .
صمتُ كثيراً واستعذت بالله من الشيطان الرجيم، لم اكمل حديثي معه حتى وجدته في “يغط في نومه ”
لم أنم تلك الليلة، كان فكري مشتت بين أخي الملقى على سريره في المشفى وحيداً، وبين بيتي وزوجي الذي لم يحتمل الأزمة التي أمر بها والتي لا يمكن تحملها، حين انبلج الفجر قمت وصليت لله ودعوت وبكيت وتمنيت أن يأتي اليوم التالي ويتحسن الحال.
أتممت بعدها بعض أعمال البيت وأشرقت الشمس وأنا أعمل، واستيقظ ليراني منهمكة في ترتيب المطبخ، نظر إلي وأكمل طريقه ثم لبس مسرعا وخرج.
أخذت طفلي وخرجت قاصدة المشفى، وحين دخلت كان وجه أخي شاحبا جداً، الطبيب عنده قال لي أريدك بموضوع مهم جدا الحقي بي الى غرفتي.
– سألتها هل تحسنت حالته أم مازال في مرحلة الخطر ؟
قالت أي تحسن يا استاذة؟ وهو فقد نصف وزنه واصفرت عيناه ولم يتوقف الأمر على هذا، فقد طلب مني الطبيب ان أنقله لمشفى خاص لأجراء عملية سريعة تتوقف عليها حياته؟ وهنا أسقط في يدي
ولم أكن املك سوى أسواره صغيرة من الذهب وهي كل ما تبقى لدي من مجوهراتي، التي تم بيعها وأنا بحاجة ماسة لها لاستئجار البيت والعيش بكرامة قبل أن يعمل زوجي.
المهم أني خرجت من المشفى مسرعة الى احد محلات الصاغة في البلد وبعت أسورتي لمعالجة أخي، وعدت أدراجي وبالفعل تم نقل أخي الى مشفى خاص وتم دفع كامل المبلغ للمشفى، بعدها تم إجراء العملية المطلوبة الباهضة الثمن، ولكن حالة أخي كانت تسوء يوما بعد يوم
وفي يوم أسود كيوم فقدت فيه أهلي واخوتي، حضرت كالعادة إلى المشفى ليبلغوني الخبر المؤلم…
توفى أخي ولم أجد حولي أحد..
الله سبحانه وتعالى يشهد علي إني بكيت ما بكيته طوال عمري كله.
أتممت مراسم خروج جسده النحيل من المشفى وتوجهت وحيدة إلى دفنه في إحدى الأماكن المخصصة في المدينة،
نشفت دموعي لشدة البكاء، ودعته تحت التراب وتوجهت عائدة الى المنزل،
هناك وجدت زوجي.
وكانت عيناه تقدح شرراً …أين كنت ؟؟
انفجرت بالبكاء ورويت له ما حدث لي، رد قائلا ببرود فظيع : وأين أسوارك الذهبي?
هل أضعته؟.
قلت لا لقد بعتها لأجل علاج أخي
انفجر غيظا وبدأ بالصراخ والضرب والشتائم ورمى علي يمين الطلاق، و أخذ طفلي وطردني خارج المنزل.
– سألتها هل من أحد تلجأين اليه ؟
– قالت أبدا لا أعرف أحدا بهذه المدينة الغريبة، الجامدة..
ضاقت بي الدنيا وتوجهت إلى محطة نقل المسافرين ومن ثم إلى هذه المدينة التي يقطن فيها أحد أقاربي، أطلب العون على زوجي كي أسترد منه طفلي.
ومازلت أحاول وأحلم بيوم أستريح فيه من كل هذا الكابوس
سألتها : هل ما زال الحلم ممكناً؟
ّ الحلم قوّة وأكبر منهم
. الحلم الذي يصنعه الإيمان بحقنا في أن نعيش أحراراً كما يليق بإنسانيتنا
نعم لازال الحلم ممكناً.