لم تعتقد أم ساجد المرأة السبعينية أن تكون مهمة لدرجة أن تشترك مجموعة من الدول و التنظيمات في قتلها.
تبدأ قصة أم ساجد من محافظة الحسكة و هناك تنتهي، امتلكت المرأة السبعينية منزلاً في الحسكة وعاشت هناك معظم سنين عمرها، هجرته عام 2013 ورحلت إلى أبنائها في ريف دير الزور الشرقي و هناك عاصرت سيطرة الجيش الحر ثم حبهة النصرة وأخيرا تنظيم داعش على المنطقة، لم تسعفها سنون عمرها السبعون أن تعيش حياة هادئة في ظل الحرب التي كانت تدور في المنطقة، ولم تنجو من نار داعش حتى، حيث قام التنظيم عام 2015 باعتقال أحد أحفادها لينفذ فيه حكم القصاص بعد مايقارب الـ 10 أشهر من الاعتقال، فجعت أم ساجد بمقتل حفيدها لكنها كغيرها من أبناء المنطقة لاتستطيع أن تعبر عن غضبها من هذا التنظيم الدموي إلى من خلال الدعاء عليهم عقب كل صلاة وأحياناً وقت الشرود وتذكر صورة حفيدها، استطاعت تجاوز تلك المحنة بما تمتلكه من رصيد من الإيمان كان حصيلة لسنين طوال من التجارب في التعامل مع النوائب، وقد ساعدها قليلاً في نسيان حفيدها الحدث الجديد الذي حل على المنطقة، طائرات حربية كثيرة باتت تحلق في سماء المنطقة كان هدير كل منها يكتب قصص من الخوف والهلع لدى الشيب والشيبان, يقول ابنها الذي كان رفيقها في تلك الأيام :
“عندما كانت تحلق طائرات التحالف في سماء البلدة تعتري والدتي حالة من الخوف والتوتر تمسك بمسبحتها وتبدأ بالإبتهال والدعاء ومناجاة رب العالمين وتسأله اللطف بقضائه وتعود إلى حالتها الطبيعية بعد ساعات من مغادرة تلك الطائرة إذا لم تنفذ غاراتها على البلدة, بقينا صابرين على هذا الحال ننتظر الفرج لكن وضع أمي الصحي كان بتراجع مستمر حيث كانت تعاني من عدة أمراض مزمنة منها أمراض القلب وارتفاع الضغط الشرياني ومرض السكر.”
وفي الشهر العاشر من عام 2017 وعلى حين غفلة من أمرنا ظننا لوهلة أن يوم القيامة قد أتى حيث أصوات الإنفجارات الجماعية وهدير الطائرات الحربية قد ملأت أرجاء البلدة, أصوات الصراخ والاستجداء يملأ المكان ولا أحد يستطيع تقصي مايجري خارج بيته, يومان كاملان ونحن حبيسون جدران منزلنا لم يتسنى لنا معرفة ماقد حصل لكن كان لنا الحظ بعض الشيئ أن نكون من العوائل التي نجت بكاملها من هذا القصف هكذا كنت أعتقد, لم يتبادر إلى ذهني أن القصف والغارات إن لم تؤذي الجسد ممكن أن تحدث مقتلاً داخل الإنسان حتى رأيت ماحصل لوالدتي مساء اليوم الثاني انهارت أم ساجد بشكل كامل لم تعد تقوى على الحراك من شدة الخوف والهلع من الأصوات القادمة من الخارج ، في صباح اليوم الثالث توقفت الأصوات على فجأة فعزمنا على الرحيل بأقصى سرعة حرك الخبر همة والدتي قليلاً استجمعت قواها جهزنا أنفسنا على عجالة وانطلقنا.
تجاوزنا حواجز تنظيم داعش دون أي تعقيدات فهم يعرفون أننا فارون من الموت، وصلنا حاجز لقوات قسد الساعة الخامسة مساءً لنقف برتل طويل جداً ننتظر دورنا لنخضع لعملية التفتيش والتحقيق، كانت حالة والدتي تتدهور بشكل متسارع لم تسمع جميع نداءاتنا أن برفقتنا حالة إسعافية.
ساعتان كاملتان حتى وصل إلينا الاذن بالتقدم بعد مايقارب النصف ساعة من التحقيقات والتفتيش اقتادونا إلى مكان تتجمع فيه الناس في منطقة قاحلة عرفنا أن علينا أن تقضي الليلة هنا, لم يكن لدينا أية أغطية أو أمتعة قضيت تلك الليلة الباردة وانا أراقب أنفاس والدتي التي تتسارع حيناً وتنتظم برهة وتتباطئ أحيانا.
طلبت أي طبيب أو ممرض أو مسعف من عناصر الحاجز فكان ردهم أنه لايوجد هنا أياً مما أنشد وأنه غداً سيتم فرزنا إلى مخيمات وضمن المخيم سيكون بإمكاني أن أعرضها على النقاط الطبية المخصصة، كانت تلك الليلة من أطول الليالي التي عشتها طوال حياتي، بعد انقضاء ساعاتها الطوال وفي الصباح تم فرزنا إلى أحد المخيمات التي تديرها قسد، وأيضاً خضعنا إلى تحقيقات واستجواب ومصادرة لأوراقنا الثبوتية وبطاقاتنا الشخصية قبل دخولنا، كان همي الوحيد هو الوصول إلى أي طبيب يسعف والدتي التي تموت ببطء .
وما أن انتهت الإجراءات اللازمة لدخولنا المخيم حتى اصطحبت والدتي على الفور إلى النقطة الطبية بعد السؤال عن مكانها من قاطني المخيم الأقدم، عند وصولي إلى النقطة الطبية شعرت وكأن الحظ قد ابتسم لي أخيراً فقد وجدت من ينقذ والدتي، لكن الصدمة جاءت سريعاً حينما امتنع الطبيب الموجود في المستوصف الطبي عن استقبال والدتي ومداوتها حين نظر إلى حالتها وعمرها فقال “هذه مريضة بيت لا أستطيع أن أفعل لها شيئاً اذهبوا بها وضعوها في خيمة واتركوها ترتاح ” خرجنا من المستوصف و ملامح الغضب ترتسم على وجهي ماذا يمكنني أن أفعل وكيف بإمكاني ايصالها إلى المستشفى وقد صرنا تحت رحمة هؤلاء .
وصلنا إلى مكان تواجد عائلتي لأفجع بالخبر الجديد ألا وهو لايوجد خيمة شاغرة لنا، هنا اختلطت لدي المشاعر الحزن مع الغضب مع الحيرة و اليأس، اضطررنا إلى اللجوء إلى أحد مرافق المخيم لنستظل بما توفره جدرانه من ظل ومواراة عن عيون الناس، وهناك قضينا أيامنا داخل المخيم، كنا نفترش شيئاً مما منّ به أهل الخير من سكان المخيم علينا، وأمي في غيبوبة يقضها شيئاً من السعال حيناً .
طلبت مقابلة المسؤولين عن المخيم لأشرح لهم وضع والدتي التي تعاني من أمراض مزمنة وصدمة عصبية في الأيام الأخيرة علّهم يسمحون لي بنقلها إلى المستشفى لإنقاذها، لكن وفي كل مرة كانوا يصطنعون عراقيل جديدة لخروجنا من المخيم، لم يأثر بهم وضعها الصحي المتردي، ولم تقنعهم الرواية أنها من سكان محافظة الحسكة وتمتلك منزل في المدينة، فطالبوا بجلب حجة المنزل إضافة لوجود كفيل ذي أصول كردية إضافة إلى حفنة من الأوراق المتشبعة بالبروقراطية المستحدثة التي تنتهي باستحضار ورقة من وزير تابع لقوات الحماية الذاتية بمنطقة رأس العين كي نتمكن من إخراجها من المخيم، كانت الشروط تعجيزية الهدف منها الإتفاق مع مهربين ينسقون مع إداراة المخيم مقابل دفع مبلغ من المال يصل إلى 700 دولار للشخص الواحد، لم أتمكن من تأمين مثل هذا المبلغ وأنا ضمن هذا المكان الأشبه بالسجن الكبير، استمر بنا الحال على مانحن عليه في ظل إحدى الغرف التابعة للمخيم لمدة سبعة أيام كاملة، و والدتي تفقد قوتها و صحتها شيئاً فشيئاً، في اليوم الثامن لم تعد أمي تقوا على إكمال المشوار معنا، سلمت روحها للرفيق الأعلى وبقي جسدها سجين أسوار المخيم، بعد تجاوز الخطب الجلل كان علي أن أتمالك نفسي وأن أعمل على دفنها، قمت بدفع مبلغ من المال لبعض العناصر كي يسمحوا لي بإخراج جثمان والدتي لدفنه في مدينة الحسكة، بينما ظلت عائلتي داخل المخيم. بعد أن قمت بدفن والدتي تواصلت مع اخوتي وبعض الأقرباء واستدنت المبلغ المطلوب للمهربين لإخراج عائلتي من المخيم، وخلال يومان كنا قد وصلنا أنا وعائلتي إلى محافظة إدلب تاركين ورائنا أم ساجد التي أنهكها ظلم البشر.
لم تتمكن أم ساجد من إكمال الرحلة فقد كانت طويلة جداً، والمتربصون بها لإنهاء حياتها كثر، فمن طيران قوات الأسد والطيران الروسي و طيران التحالف الدولي عبوراً بتنظيم داعش وصولاً إلى قوات قسد التي غابت عن قوانينها في التعامل مع النازحين أدنى بنود مراعاة الإنسان واحترام حقوقه .
مقال بقلم:
رامي أبو الزين