الحياة – محمد حسان
«عند آخر حاجز للنظام بإتجاه الغرب، تسلّم الضابط المبلغ المتفق عليه وهو 300 ألف ليرة سورية لكل فرد من العائلة وقال لنا كما لو أنه يريد أن يركلنا: «انقلعوا لعند داعشكم». وتقدمنا بحذر وخوف نحو أول حاجز لـ «داعش»، كأننا نهرب من موت إلى موت» هكذا وصف أحمد. س لحظات خروجه من مدينة دير الزور التي يحاصر تنظيم الدولة الاسلامية «داعش» الحيين المتبقيين منها تحت سيطرة النظام، وهما القصور والجورة منذ أوائل شباط ( فبراير) من العام الحالي بين شقي رحى طاحونة الحرب. ووفق ياسر. ش الذي ألح على بقاء إسمه طي الكتمان لاستقراره أخيراً في إحدى البلدات التي يسيطر عليها التنظيم، فإن « داعش» قطع منذ أوائل هذا العام كل الطرق المؤدية إلى مناطق سيطرة النظام السوري في دير الزور والتي يقطنها أكثر من 350 ألف مدني، ومنع دخول المواد الغذائية والطبية، ولم يسمح لأبناء المدينة الذين يقطنون خارجها من الدخول إلى عند ذويهم هناك مهما كانت الأسباب. وطالب من يقطنها بمغادرتها، وبدورها منعت قوات النظام الأهالي من المغادرة، خشية أن يكون ذلك مقدمة لاقتحام المدينة من قبل «داعش»، وفضلت بقاء هذا الدرع البشري الهائل تحت سيطرتها، لكن في الأسابيع الأخيرة، بدا أن ثمَّة عجزاً كبيراً لدى النظام في ما يخص تلبية أدنى المطالب المعيشية للسكان، التي كانت تسد بتقشف شديد من خلال الرحلات الجوية إلى مطار دير الزور العسكري الخاضع لسيطرة قواته، واضطر القائد العسكري للمنطقة الشرقية، العميد محمد خضور، إلى إصدار قرار يسمح بموجبه بمغادرة المدنيين المدينة بعد الحصول على تصريح خطي.
تصريح بمغادرة المدينة.. ولكن!
قبل أن يصدر قرار السماح بالمغادرة، كانت بعض الأسر التي تدبرت أمرها مالياً تمكنت من خرق الحصار وذلك أما بواسطة الطائرات التي تغادر إلى دمشق، أو من خلال المعبر المائي الذي يربط المدينة بالريف الغربي عند بلدتي البغيلية و الجنينة. وهذا طبعاً إما بدفع رشوة هائلة للضباط والمسؤولين، أو من خلال شبكة العلاقات الوسائطية المعقدة والمزدهرة. وحتى عندما صدر قرار القيادة العسكرية للنظام بالسماح للأهالي بالمغادرة يوم 19 – 7 – 2015 وضعت شروط واعتبارات تجعل مرور أية عائلة شبه مستحيل ما لم تدفع مبلغاً ما، فبادر الكثير من الأهالي إلى بيع منازلهم أو ممتلكاتهم الأخرى قبل الرحيل مقابل مرورهم إلى حيث يوجد الخبز، بعد أن وصل سوء الوضع إلى موت العديد من الأشخاص بسبب سوء أو انعدام التغذية، أو بسبب الحاجة للدواء.
يحتاج الخروج إلى مناطق سيطرة «داعش» إلى تصريح مكتوب من القيادة العسكرية للنظام في المدينة. وقُدِّر عدد الطلبات المقدمة منذ بدء سريان القرار بحوالى 10 آلاف طلب، كما ذكر الناشط زيد الفراتي في دير الزور، والذي أكد أيضاً « إن الموافقة تتم على 50 طلباً فقط كل يوم، ويخضع تقديم وتأخير الدور للوساطة والرشوة، وتأتي هذه الموافقات منقوصة على الدوام، إذ لا يسمح لأفراد العائلة من الذكور بين سن 16 وسن 50 بالمغادرة، وتبقى فرحة الأسر التي تحصل على التصريح منقوصة بطريقة أو بأخرى، وهو ما أجبر بعض العائلات على البقاء تحت الحصار على رغم وجود التصريح». لكن هذا لا يكفي وفق عدد من الخارجين من الحصار، إذ أن ثمة اتفاقاً بين حواجز النظام المعنية بمرور هؤلاء، يقضي بدفع مبلغ يساوي ألف دولار عن كل شخص عند آخر حاجز، وإلا ستتم اعادتهم وتمزيق ورقة التصريح، وتهمة «مطلوب» أو «داعشي» يمكن أن تلصق ببساطة بمن يعترض أو يمانع، لذلك لا أحد يغامر بالتوجه إلى حاجز «عياش» وهو الأخير، إلا إذا كان يمتلك المبلغ المطلوب.
قرار السماح بالمغادرة يشمل أيضاً طلاب (الجامعات والمعاهد ) من أبناء ريف دير الزور المتواجدين في المناطق المحاصرة وطلاب جامعة الفرات من المحافظات الأخرى، وبعض المرضى والمصابين. أما كل من يمكن تجنيده لاحقاً فلم يسمح له بالمغادرة، وهو ما فسره الناشط زيد الفراتي بقوله: «إن النظام بقواه المتهالكة يريد استبقاء عدد ولو قليل من الرجال الذين يمكن زجهم في المعارك فيما لو قرر «داعش» أن يقتحم المدينة كما يهدد دائماً».
الحياة بعد آخر حاجز للنظام
حتى اليوم خرجت مئات العائلات إلى مناطق سيطرة «داعش»، جميعها خضعت للتحقيق والتدقيق على حاجز التنظيم الذي لا يبعد سوى بضع مئات من الأمتار عن حاجز النظام على طريق دير الزور الرقة في قرية عياش. الجميع ينقلون إلى مدينة معدان في ريف الرقة الشرقي بسيارات تابعة للتنظيم، ويتحتفظ عليهم في مقرات خاصة، وتعزل الإناث عن الذكور. الناشط أبو سعد الديري أكد أن «جميع العائلات التي خرجت من مناطق قوات النظام احتجزها التنظيم بعد خروجها من المناطق المحاصرة لإجراء التحقيقات والتأكد من عدم وجود مطلوبين للتنظيم بين العائلات الخارجة». وأشار إلى أن التنظيم أعدم عدداً من المدنيين الخارجين من مناطق قوات النظام بتهمة التعامل مع النظام السوري بعد أيام من خروجهم. لكن سوسن إحدى اللواتي احتجزهن التنظيم قالت إن «عمليات التحقيق اقتصرت على أسئلة عن الأشخاص المتعاونين مع النظام وعن عدد عناصر ميليشيات الدفاع الوطني التابعة للنظام وأسئلة عن الجيش النظامي وأهم نقاط تمركزه إضافةً الى أسئلة تتعلق بظروف الحصار». وأضافت: «التحقيق ترافق مع توجيه عناصر «داعش» الإهانات والشتائم للنساء والرجال، فيما توعّد بعض العناصر الخارجين بالقتل لمجرد سماع أسماء عائلاتهم وذلك على خلفية وجود أقرباء لهم في صفوف قوات النظام السوري ومنهم من هدًّد بعض المدنيين لمجرد عداء شخصي بين عنصر من «داعش» وأحد المدنيين. لكن مع كل ذلك لم تطل إقامة مئات العائلات لدى التنظيم، وأخلي سبيلهم ليتناثروا في قرى وادي الفرات، بين معارفهم وأقاربهم من عشائر المنطقة حيث تفرض مقتضيات الضيافة في تلك المنطقة على الأهالي شكلاً من أشكال التضامن والتكافل بعيداً من النظام والتنظيم، وبمعزل أيضاً عن منظمات الإغاثة والدعم التي لم يعد لها وجود منذ أن سيطر التنظيم على المنطقة قبل أكثر من سنة.