بقلم: مايا درويش
على ضفاف الفُرات، صار لحياة النساء الآن وجهٌ آخرُ؛ وجهٌ قد يبدو ملوّناً وجميلاً كلوحة فسيفساء، لكنّها في الواقع ما زالت ناقصة، لم تكتمل بعد، فها هنا نساء يتسوّقن، بعضهنّ سافِرات، وأُخريات يرتدين حجاباً ملوّنا وبعضهنّ منقّبات، وهنا ناشطات ومعلّمات وقياديات فاعلات، قد تظنّ للوهلة الأولى أنّ حياتهنّ قد عادت إلى سابق عهدها، لا بل ربما أفضل من ذلك، لكنّها في الحقيقة ما زالت فئة غير قليلة منهنّ ترزحن تحت وطأة رواسب داعش، فلطالما عانت نساء ريف دير الزور تحت هيمنة التنظيم من التهديد المستمرّ والضوابط القهريّة، حيث تعرضن لأبشع أنواع التعنيف والعقوبات الصارمة، فقد فرض التنظيم على النساء أثناء سيطرته على ريف دير الزور الكثير من التشريعات الصارمة والقوانين المُجحِفة بحقهنّ، كما أدى تواجد التنظيم لعدّة سنوات في المنطقة، إلى خلق منظومة أخلاقيّة شكليّة باتت متجذّرة في عقول الأهالي، ونجح بغرس الأفكار الذكوريّة والمتطرّفة التي أثرت بشكل كبير على سلوكيات الفرد ابتداءً من المُفردات التي ما زالت متداولة حتى اليوم في البيت والشارع، وفي التبادلات التجارية بالأسواق، وانتهاءً بالذهنية الذكورية والتشريعات الصارمة؛ فقد ركّز في تعامله مع الأفراد على ظاهر الأمور وقشورها والتديّن الظاهريّ الذي أدخله على المجتمع متجاهلاً المضمون الجوهري للدين.
بروباغندا داعش ما زالت متجذّرة
لقد أوحت بروباغندا داعش للناس أنّ ارتداء الحجاب وحده غير كافٍ للالتزام الدينيّ بالنسبة للنساء، وأنّ ارتداء الدرع والنقاب هو اللباس الشرعي الصحيح، وبعد خروج التنظيم من المنطقة لم تنتهِ معاناة النساء، فلم يكن من السهل عليهنّ تجاوز الذهنيّة الذكورية التي خلفها داعش وراءه وتخطي العادات والتقاليد السائدة وثقافة العيب، فانقسمت نساء ريف دير الزور إلى قسمين؛ قسم ما زال مُلتزماً بالواقع الذي فرضه داعش عليهنّ خوفاً من عودة التنظيم أو ظهور خلاياه النائمة التي تخرج من هنا وهناك وفي غير مناسبة، وإما بسبب التشدّد الذي غرسه داعش في عقول عائلاتهنّ، فما زالت بعض العوائل تمنع بناتها من الدراسة والخروج من المنزل ومزاولة أعمالهنّ، أما القسم الثاني من النساء فقد خلعن النقاب والدرع منذ اللحظة الأولى لتحرير المنطقة واخترن العمل في مجال توعية الناس ومساعدتهم للتخلّص من الفكر الداعشي.
تقول فاطمة الحمود وهي معلّمة من سكان مدينة الشحيل (28 عاماً) التي عاشت تحت نير التنظيم خمس سنوات لشبكة دير الزور 24 (إنّ العباءة الديرية المعروفة، هي لباسنا التقليدي منذ عشرات السنين، ونحن لسنا بحاجة لمن يفرض علينا ارتدائه أو من يُكمله بنقاب)، وتضيف بأسى: (كنا نعاني من التهميش والاضطهاد وفرض التشريعات والعقوبات الصارمة من قبل عناصر داعش، فقد كان علينا أن نرتدي الدرع والنقاب، كما مُنعنا من الخروج من منازلنا إلا برفقة مُحرم)
وبنظرة ملؤها الحزن تتابع (تمنيتُ حينها لو أنّني خلقتُ ذكراً لأسافر خارج البلاد وأحقّق أحلامي بعيداً عن القهر والتطرف) ثم تتنهّد وتتبسم قائلة: (لقد كان خروج داعش من المنطقة أمرا يُشبه البِشارة بالنسبة إلينا نحن النساء، بل كان عيداً بالنسبة إلي، لقد تنفّسنا الصعداء).
أما زهرة المحمود وهي مُهندسة مدنيّة من سكان مدينة البصيرة (39 عاماً) فتقول: (بدأنا بالعودة تدريجياً إلى حياتنا الطبيعية، فبعض النساء قد خلعن الدرع والنقاب وبعضهن أبقين عليه).
وترى زهرة أنّ خلع النقاب أمرٌ مُحزن للغاية، فهي ملتزمة دينياً، وكانت ترتدي النقاب قبل دخول داعش حيث تُضيف: (بعد تطهير المنطقة من داعش أصبح ارتداء النقاب مثيراً للشبهات، لذلك اضطررتُ لخلعه، كما أنّي واجهت الكثير من الصعوبات في العودة إلى العمل، حيث تم رفضي عدة مرات بسبب نقابي).
ثقافة العيب ما زالت حاضرة
على الرغم من أنّ الإدارة الذاتية أتاحت فرصاً كثيرة لنساء المنطقة للانخراط في نشاطات المجتمع المدني وحرية الصحافة ومجالات العمل المختلفة، إلا أنّ تلك المجالات ما زالت تشكّل تشويهاً للسمعة من قبل المجتمع تحت مسمى “العيب”. تقول ياسمين العبد الله وهي ناشطة مدنية من سكان مدينة هجين ( 26 عاماً) إن (نظرة المجتمع كانت العائق الأكبر بالنسبة لي، على الرغم من أنّ عملي كان في مجال الإغاثة فلم يكّف بعض الأقارب والأصدقاء والجيران ألسنتهم عني، فمجتمعنا لا يرحم) وأضافت: (تحدّث الكثير من الناس عنّي بالسوء لأنّني امرأة، وأعمل في هذا المجال، فلطالما اعتقدتُ أنّ الناس ستتغيّر بعد خروج التنظيم، لكن للأسف فثقافة العيب ما زالت متجذّرة وحاضرة وتُحاصر أحلامي الصغيرة).
من جهتها تقول هناء العواد (22 عاما) من سكان بلدة ذيبان لشبكة دير الزور 24 من وراء النقاب الذي ما زالت ترتديه: (ذهب داعش لكنّ مخلّفاته ما زالت حاضرة، فأنا لم أكن أرتدي النقاب قبل سيطرة التنظيم على المنطقة، لكن أخي الكبير يمنعني من خلعه بحجة العيب والعادات والتقاليد) وتكمل بنبرة خائبة (لقد أصبحت عائلتي وأقاربي أكثر تحفّظاً بعد داعش، فكل ما أطلبه بات يُقابل بالرفض بحجة العيب).
هل الكومين يُعتبر حقا حجر الأساس لتفعيل دور النساء؟
على الرغم من الانتقادات الكثيرة الموجّهة للإدارة الذاتية في أداءها فيما يخصّ قطاعات كثيرة كالصحة والتعليم وغيرها، إلا أنّ ملفّ المرأة يعدّ من الملفات التي تعتني بها لدرجة كبيرة، وبخاصة في إطار تنظيمها وفتح سوق العمل لها في مختلف مفاصل الإدارة، فعلى الرغم من كلّ الصعوبات والعوائق، إلا أنّ اليأس لم يعرِف طريقاً إلى قلوب نساء ريف دير الزور، فهنّ يعملن جاهدات على استجماع قِواهن من جديد، ويُحاولن بكل ما أوتينَ من صبر وإرادة تذليل العقبات للانخراط في المجتمع من جديد وإثبات ذواتهنّ.
وتُحاول الإدارة المدنية (الإدارة الذاتية) مساعدتهن وتفعيل دورهنّ، حيث فتحت أبواب العمل أمامهنّ في كافة قطاعات الإدارة والمجالس المحلية ومنظمات المجتمع المدني ومجالس ولجان المرأة فبدأت النساء بتنظيم أنفسهنّ وبخاصة ضمن ما يُسمى بـ “الكومينات” ويُقصد بها المجمّع أو التجمّع وتُعرف الكومينات بحسب نظام الإدارة الذاتية بأنّها مجموعة من الناس في الحيّ أو القرية يقومون بإدارة أمورهم الحياتية ومعالجة مشاكلهم من الناحية الثقافية والصحية والاجتماعية والصناعية والاقتصادية والزراعية.
ويتكوّن الكومين من عدّة لجان وتختصّ كلّ لجنة بالمهام الملقاة على عاتقها في تنظيم أمور المجتمع ولكومينات المرأة أهمية كبيرة حيث تختصّ هذه الكومينات بأمور المرأة وتنظيمها والمرجعية الأساسية لحلّ مشاكلهنّ وتحسين أوضاعهنّ.
وانتشرت الكومينات في معظم مدن ونواحي وبلدات ريف دير الزور، فهي حجر الأساس واللبنة الأولى لتنظيم النساء أنفسهنّ والأساس في ترسيخ مبدأ التعايش السلمي والمشترك بين المواطنين.
وعن أهمية دور الكومين في إبراز دور المرأة قالت نور السلطان إدارية لجنة المرأة في مدينة هجين لدير الزور 24: (لقد خرجت النساء من تحت الركام وهنّ مدمّرات فكرياً وجسدياً، وعملن على أداء أدوارهنّ في تنظيم أنفسهن ضمن كومينات خاصة بهنّ، متجاوزات بذلك جميع المعوّقات، كما استطعن الانخراط في المجتمع من جديد وتنظيم أنفسهنّ وإثبات وجودهنّ بقوة).
وأوضحت أنّ وضع النساء جيد جداً، حيث لاقت النساء في عهد الإدارة الذاتية الكثير من الاهتمام، وحصلن على العديد من حقوقهن وأصبح لهنّ مكانه في جميع المجالس والمؤسسات في المنطقة.
وأضافت ” يعتبر الكومين نقطة أساسية لتنظيم النساء ووصولهنّ إلى المجالس المحلية والبلديات ومؤسّسات الإدارة الذاتية، فهنّ الآن يُشاركن الرجل جنباً إلى جنب في كافة المجالات السياسية والعسكرية والاجتماعية والفكرية).
ولا تقتصر مهمّة الكومينات على حماية الأحياء فحسب، بل تسعى أيضاً إلى حماية النساء اللواتي يتعرضن للعنف سواء داخل أسرهن أو خارجها، حيث يتم إيواء النساء في الكومين إلى حين حلّ مشاكلهن، كما يتم إيواء بعض النساء في منازل آمنة أو أماكن خاصة، وفي تلك الأثناء تسعى لجنة الحماية بالتنسيق مع لجنة الصلح الاجتماعي لدراسة المشكلة والتواصل مع الجهات المعنية بهدف حل تلك المشكلة، وفي حال تم التوصّل إلى حلّ للمشكلة تعود النساء إلى منازلهن، ولكن في حال عدم حلّها تُحال القضيّة إلى رابطة المرأة مع استمرار حماية المرأة صاحبة القضية.
وأكدت نور أنّ هناك مشاريع كثيرة تخصّ المرأة ما زالت قيد الدراسة والتخطيط، مُطالبةً بمزيد من الدعم للمنطقة، فهناك عدد كبير من الأرامل والمطلّقات، وهنّ بحاجة إلى جميع أنواع الدعم كي يتمكنّ من الاعتماد على ذواتهن وإعالة عوائلهن.
وعلى الرغم من النشاط الواضح لنساء ريف دير الزور خلال السنوات الماضية، إلا أنّهن لم يستسلمن لواقعهنّ، فلا يزال أمامهنّ طريق طويلة للحصول على حقوقهنّ كاملة ونيل حريتهنّ في ظلّ مجتمع شرقيّ شبه منغلق، تطغى عليه الذهنية السلطوية الذكورية وتتحكّم فيه العادات والتقاليد، وأنهنّ ورغم كلّ شيء ما زلن يعملن على إثبات جدارتهن في تطوير وبناء المجتمع والنهوض من جديد دون كلل أو ملل.