عادل العايد- موقع الجمهورية
أمامَ بناءٍ حديثِ الإنشاء في جمعية الرصافة جنوب شرق مدينة دير الزور، وضمن نطاق المدى المجدي لمدفعية النظام المتمركزة في الجبل المطل على دير الزور، وقفَ عددٌ من المقاتلين الملثمين في ليلةٍ ربيعيةٍ من عام 2012، ينتظرون قدوم عددٍ من المنشقين عن جيش النظام. وصلَ المنشقون في ساعة متأخرة من تلك الليلة، كان عددهم ثلاثة، اثنان من حلب وثالثٌ من اللاذقية، وذهبَ الجميعُ إلى النوم دون أن يعرفوا أنهم سوف يكونون في الصباح على موعدٍ مع أول معركة حقيقة مع قوات النظام في مدينة دير الزور.
كانت تلك المجموعة إحدى أهم مجموعات الجيش السوري الحر الناشئة في دير الزور، والتي كانت تتخذ من ثلاثة منازل في جمعيةٍ ما زالت بعض أجزائها قيد الإنجاز مقراً لها، وقد دأبت خلال الأشهر القليلة التي سبقت هذه الليلة على شنّ هجمات سريعة على حواجز قوات النظام، لتعود إلى مقرها في المنطقة التي يقطنها عدد قليل من السكان، فيما معظم الكتل السكنية ما زالت غير مسكونة، وهو ما سهّلَ على المقاتلين الاختفاء فيها لمدة أربعة أشهر دون أن يشعر النظام بذلك.
خلال ساعات الصباح الأولى كان هؤلاء المقاتلون على موعد مع أول منازلة علنية مع قوات النظام في وضح النهار، فخلال الأشهر السابقة كانت مهامهم هي حماية المظاهرات السلمية أو شنّ هجمات خفيفة ومتفرقة ليلاً على قوات النظام، إلا أن هذه المنازلة التي انتهت بما يشبه التعادل في الخسائر من الطرفين، دفعت الحراك الثوري في المحافظة نحو المواجهة المسلحة بهدف حسم الصراع مع النظام بشكل مبرمٍ ونهائي.
اعتقدَ كثيرٌ من الناشطين والفاعلين على المستويين العسكري والمدني أنه لا جدوى من هذه المواجهة، لأنه لا مجال للمقارنة بين قدرات هؤلاء المقاتلين وقدرات جيش النظام، بينما قال آخرون بضرورة المواجهة الشاملة والذهاب بالخيار العسكري إلى أبعد مدىً. أما قادة الحراك المسلح فقد ظهر عليهم الارتباك آنذاك، وسرَت شائعاتٌ تفيد أن بعضهم قد طالب بتأمين كميات نوعية من العتاد من أنواعٍ بعينها، كمقذوفات الآر بي جي أو مضادات للطيران على الأقل، قبل إطلاق أي معركة شاملة مع النظام، فهؤلاء القادة كانوا على الرغم من اندفاعهم وحماسهم الثوري على قدرٍ من المسؤولية في فترةٍ كان فيها إنكارُ الذات سمةً عامةً في الحراك، ما جعلهم فعلاً يعانون من صراع نفسي داخلي بين البقاء على استراتيجية المقاومة السرية دون مقراتٍ ولا انتشار في الشوارع، وهو خيار مرهق وشاق نفسياً وتنظيمياً، ولكنه كان أقل كلفة مادياً وبشرياً، وبين النزول إلى ميدان القتال وجهاً لوجه واقتلاع النظام من الجذور. وما يزال النقاشُ دائراً وغير محسومٍ بين الثوار السوريين بشكل عام حول هذا المسألة، فالخيار الأخير لم يثبت جدواه، فيما لا يزال الأول غير معقولٍ جراء دموية النظام المفرطة.
كانت القوات المهاجمة لمقرات الجيش الحر تقدر بنحو 200 جندي حسب مصادر متعددة، وهي عبارة عن فرقة نوعية مدعمة بالمدرعات تسمى كتيبة المداهمة أو سرية المداهمة التابعة لفرع المخابرات الجوية، ويقودها النقيب أيهم الحمد، وهو من أقرباء آصف شوكت، أحد أركان المؤسسة الأمنية في سوريا. ومما تم تداوله آنذاك أن هذه القوات استطاعت تضليل مقاتلي الحر في الرصافة، إذ كانت تبدو القافلة متجهة نحو ريف دير الزور الشرقي، في وقتٍ كثّفت قوات الأمن من دورياتها ومداهماتها هناك، إلا أنها انعطفت وبشكل مفاجئ نحو الجمعية السكنية لتبدأ المعركة على الفور.
لا يملك أحدٌ دليلاً قاطعاً عن كيفية توصل أجهزة أمن النظام إلى مكان عناصر الجيش الحر، فبعد أسبوعٍ تقريباً من المعركة قُتلت امرأةٌ في مدينة دير الزور بعد أن خُطفت، وكانت بجانبها ورقةٌ كُتب عليها أن الجيش الحر أعدمها لقيامها بإعلام أجهزة أمن النظام بمكان المقاتلين، فيما قال آخرون إن النظام حصل على المعلومات من ناشطين مقربين من هؤلاء المقاتلين، اعتقلهم واعترفوا بما لديهم من معلومات تحت التعذيب الشديد. وتجدر الإشارة إلى أن القائمين على هذه المجموعات كانوا قد تنبهوا إلى إمكانية انكشاف المقر المذكور، خصوصاً بعد استخدام المكان كملجأ للمقاتلين منذ أربعة أشهر، ما يجعل فرضية انكشافه تتزايد يوماً بعد آخر، وكانوا قد وجدوا أمكنة أخرى للانتقال إليها فعلاً، إلا أن الوقت لم يسعفهم.
استطعنا أن نلتقي ملازماً أولاً منشقاً عن جيش النظام شاركَ في المعركة المذكورة إلى جانب هذه المجموعة من الجيش الحر، وكان قد انشقّ قبل المعركة بفترة وجيزة عن طريق قائد هذه المجموعة في تلك الفترة المعروف بالحاج محمود، حيث خاض اشتباكاً أولياً في مدينة موحسن بريف دير الزور الشرقي، ثم عاد قبل أيام من المعركة ليقيم مع الحاج محمود في أحد المنازل البعيدة عن الأعين في حي الصناعة بدير الزور، برفقة أربعة ضباط منشقين، ثلاثة منهم برتبٍ صغيرة فيما واحدٌ فقط برتبة مقدم، بالإضافة إلى عددٍ من المدنيين، وظلّوا في ذلك المنزل يتناوبون على الحراسة وأمور الطبخ والتنظيف إلى أن قامت المعركة.
في حدود الساعة السادسة من صباح المعركة، اتصلَ أحد الملازمين بالحاج محمود ليخبره أن قواتٍ كبيرة من جيش النظام تحاصر مقراتهم، وأثناء حديثه السريع مع القيادي كانت القذيفة الأولى قد سقطت على البناء، وسُمِعَ صوتها عبر الهاتف، ما جعل المتواجدين في هذا المنزل يتجهون إلى المقرات الأخرى بكامل عتادهم وسلاحهم عبر الشارع علانيةً، وهو أول ظهور علني للسلاح، إذ كانوا لأشهرٍ يعتمدون على القتال ليلاً متجنبين ضوء النهار الذي يسبب انقلاباً ليس في مصلحتهم في موازين القتال.
بدأ الارتباك يسيطر على كلا الفريقين وعلى الأهالي مع وصول النجدات للمحاصرين في المقرات، ولم يعد أحدٌ يعلم على وجه الدقة من يقاتل من، وأين يتمركز كلٌ من الطرفين، وما هي القدرات الحقيقية لكلٍ منهما. ويبدو أن هذا هو السبب الوحيد الذي جعل قوات النظام تتكبد تلك الخسائر الفادحة رغم تفوقها في العدد والعتاد، فخروج مجموعاتٍ من أماكن متعددة قد ضلل هذه القوات بشأن القوة الحقيقية لمقاتلي الحر، وهي القدرة التي يتحدث عنها الملازم المنشق بقوله: «كنا نطلق قذائف صاروخية على المدرعات فنكتشف أنها محشوة بالتراب، بالإضافة إلى قنابل يدوية ومولوتوف لم تنفجر، لقد كانت قوات النظام قادرةً على سحقنا تماماً بالقدرات التي كانت لديها آنذاك».
من جانب آخر، أدى مقتل القيادي الحاج محمود إلى تقهقر المجموعات التي حاولت إنقاذ الجيش الحر المطوق من قبل النظام، ثم عادت لتشن هجوماً يائساً وأخيراً على قوات النظام، إلا أن المقاتلين تراجعوا سريعاً أيضاً أمام قوة النظام، وبعد معرفتهم بنجاح رفاقهم في إخلاء المقرات وكسر الطوق المفروض عليهم. في تلك الساعات الحرجة دعا «شحوار» وهو لقب المدعو مأمون الجاسم إلى العودة للقتال وإشعال الحرب في المدينة بشكل كامل ثأراً للمقاتلين الذين استشهدوا، إلا أن دعوته باءت بالفشل، بعد أن واجهتها الأغلبية بالرفض، وذلك بعد أن بات واضحاً أن قدرات المقاتلين الضئيلة لا يمكن مقارنتها بما لدى قوات النظام.
أما «شحوار» فقد كان حالةً استثنائيةً وفقاً لوصف كل من عرفه، يصفه زملاؤه أنه شجاعٌ مقدام، ويروون قصصاً عن أنه كان يلاحق سيارات الأمن في الكمائن بمفرده ويمطرها بوابلٍ من الرصاص، وأنه كان دائماً في مقدمة المعارك. كان يرى أن الحل في القتال حتى الرمق الأخير، كان ثائراً متحمساً ومقاتلاً لا يهاب الموت، أما هو فقد كان يصف نفسه باللص الذي يسرق من الأغنياء ويعطي الفقراء، وذلك عندما كان أصدقاؤه المقاتلون يسألونه عن عمله قبل الثورة.
بعد تلك المعركة أنشأ «شحوار» لنفسه تشكيله العسكري الخاص، «لواء أحفاد محمد»، وشاركَ في تحرير مناطق ونقاط عدة من يد النظام، إلى أن اغتيلَ بعبوة ناسفة وضعت في سيارته في الشهر السادس من عام 2013. اتُهِمَت جبهة نصرة بترتيب ذلك، إلا أن الأمر بقي اتهاماً ولم تُعرَف حتى اللحظة الجهة المسؤولة عن ذلك بشكل مؤكد، ورغم اختلاف وجهات النظر بشأنه إلا أن أغلبية من عرفوه يؤكدون أنه كان حالة ثورية صادقة.
بالعودة إلى يوم المعركة، فقد تلقت قوات النظام صدمةً كبيرةً جعلتها تنهار تقريباً. كانت هذه الصدمة هي مقتل الرائد أيهم الحمد قائد الحملة أثناء المعركة، والخسائر الفادحة التي تلقتها كتيبته نتيجة مقاومة الجيش الحر المحاصر العنيفة، مع فارق العدد والعتاد. ومن الأمور المؤكدة أن عناصر النظام بعد أن صعدوا إلى سطح البناء، وجدوا جميع عناصر الجيش الحر هناك قد استشهدوا ولا يوجد مع أيٍ منهم رصاصة واحدة، لقد قاوموا حتى النهاية.
قامت قوات النظام بإلقاء جثث مقاتلي الجيش الحر من سطح المبنى المؤلف من ثلاث طوابق، كنوعٍ من التشفي بهم، أما العناصر الذين استطاعوا الخروج فقد توزعوا على عدة أحياء تم نقلهم إليها من قبل المدنيين تحت حماية فصائل أخرى، في حين انتهت الحملة باستشهاد 21 عنصراً من الجيش الحر رفضَ النظام تسليم جثثهم لذويهم بادئ الأمر، ثم رضخ بعد عدة أيام وقام بتسليمهم. وبعد المعركة انتشرت صورة الحاج محمود بعد وضعها كبروفايل شخصي على وسائل التواصل الاجتماعي من قبل أغلبية الناشطين والفاعلين في الحراك آنذاك، كانت تلك الحالة عفويةً جاءت بعد انسداد الأفق بإسقاط النظام عن طريق المظاهرات السلمية.
كانت الإحصائية الرسمية لقتلى قوات النظام بحدود العشرين قتيلاً، فيما تسربت حينها معلومات تفيد أن القتلى كانوا بحدود ستين عنصراً، ولم يكن أمر الأعداد بالنسبة لأبناء دير الزور مهماً آنذاك، فأغلبيتهم كانوا متفقين أنهم انتصروا وإن كان ذلك في معركة صغيرة، وهو ما سوف تؤكده السنوات اللاحقة، إذ إن ما جرى لم يكن إلا جولةً صغيرةً جداً.
بعد المعركة ظهرَ خلافٌ بين مجموعات الجيش الحر التي كانت في دير الزور، كان سببه اتهام عناصر كتيبة عمر بن الخطاب لقياديٍ في كتائب محمد هو خليل البورداني بالتأخر والتلكؤ في تقديم العون لهم في المعركة، حيث أكد الملازم المنشق الذي التقينا به أن قادةً في الكتيبة الأولى قد اتصلوا من أجل العون منذ بداية المعركة، لكن البورداني ماطلَ في ذلك، وقالَ لأحد الناشطين المقربين منه بعد فترة وجيزة من المعركة إنه فعلاً رفض الدخول في المعركة، مبرراً ذلك بأن «حاجزاً قد يطول أمر التخطيط للهجوم عليه لمدة شهر، فكيف ندخل معركة واسعة وفي وضح النهار بدون تخطيط وخلال دقائق؟»، ويبدو أن الخلاف وقتها قد حُلَّ تحت واقعية هذا الطرح.
لا يزال كثيرٌ من الثوار من أبناء دير الزور يشعرون بالانجذاب والحنين لتلك الفترة، أو على الأقل من التقينا بهم أثناء كتابة هذا النص، وذلك باعتبارها مرحلة ذهبية للحراك الثوري، كما أنهم يعتبرونها مرحلة تأسيسية لما بعدها، إذ إن مصائر وأقدار الرجال الثلاثة الذين كانوا فاعلين في تلك الفترة، وهم «شحوار» والحاج محمود والبورداني قد تقاطعت وأثّرَت في أقدار مناطق ومجتمعات محلية كاملة.
كان «شحوار» يمثّل تيار الثورة حتى النهاية دون الالتفات إلى الخسائر، ودون الاهتمام بالتنظيم والتوافق. والحاج محمود كان مهتماً بتوحيدِ الصفوف قبل كل شيء، وهو ما عمل عليه بشكل مكثف خلال نشاطه في الثورة، كما يذكره الضباط المنشقون بوصفه الشخص الذي كان يعطيهم مكانهم وحقهم في العمل العسكري. أما البورداني فقد كان يدعو إلى التنظيم قبل دخول المعركة الفاصلة، واستشهدَ بغارة لطيران النظام في الشهر التاسع من العام 2012 استهدفت اجتماعاً ضم قيادات ثورية مدينة وعسكرية في مدينة دير الزور، كان الهدف منه إنشاء جهازٍ قضائي في المدينة.
كانت الاستراتيجية التي انتهجها الثوار في قتال قوات النظام تقوم على تأمين الريف بشكل جيد، ونقل المعركة وتركيزها في مدينة دير الزور، وهي الاستراتيجية التي تماهى معها النظام بالانسحاب من كامل الريف، وتركيز قواته في المدينة. اتّبَعَ تنظيم داعش الاستراتيجية نفسها أيضاً بعد سيطرته على المناطق المحررة في دير الزور، ما أدى إلى تدمير جزءٍ كبيرٍ من المدينة بسبب سنوات القتال المتواصلة فيها. أما حي الرصافة فهو اليوم خطٌ فاصل تقريباً بين قوات النظام وداعش، كما كانت المعركة التي جرت فيه قبل سنوات نقطةً فاصلةً بين المظاهرات السلمية والعمل المسلح.