سميرة بدران
دخلتُ الجورة مع أطفالي الأربعة بعد أن عبرنا بوابة الموت ( جسر السياسية ) تحت وابل من الرصاص ، قطعنا النهر الفاصل بين الحيين مع جموع كثيرة من الهاربين من الموت تحت قصف النظام المكثف على المنطقة المحررة ، كانت المنطقة( الجورة والقصور) تنفض عن حيطانها وشوارعها آثار مجازر قريبة بالزمن من وقت عودتنا إليها.
كثير من سكان الدير عادوا إليها بعد نزوح إلى الرقة أو المناطق الريفية القريبة ،لكننا رغم ذلك استطعنا أن نجد لنا غرفة في بيت أحد الخيرين مؤقتاً ريثما نستطيع تأمين سكن آخر ، المدارس بدأت تلملم معلميها لتكمل مشواراً انقطع بدخول الآليات العسكرية وحدوث الجرائم المشينة التي يندى لها جبين الأنسانية والضمير، التي راح ضحيتها الكثير من شباب الدير وعوائلها.
الدماء على الجدران ، كتابات الجيش الحماسية ، آثار الرجل البخاخ لم تمّح بعد، الفوضى والدمار ورماد الحرائق ،كل تلك التفاصيل كانت تشكل المشهد الذي كان يصفعنا كلما تجولنا في المنطقة ، ثم بدأت تخفت وطأته بعد أن عمل أصحاب المحال والبيوت على إزالة ما استطاعوا منها، كل شيء كان مقبولاً حينها حتى ضاقت يداي عن إيجاد عمل يقي أطفالي ويقيني من السؤال ، فطرقت كل الأبواب للحصول على عمل ولم أفز بفرصة، لكنني استطعت بعد جهد الحصول على غرفة في السكن الجامعي في حملة إيواء قام بها النظام وكنا من الفائزين بها بمعجزة لاتتكرر، فالواسطة والمحسوبيات مازالت قائمة طالما النظام المتهالك قائماً بدمويته وطغيانه.
تسلمنا الغرفة مع بعض الفرش والمؤن، كنا عشرات العوائل في الطابق الواحد متوزعين على غرف لابأس بها نتشارك في الهم والمرافق والحمامات، سعدنا بها أول الأمر ، لكن الخوف بدأ يتسلل إلي بعد أن حدثت بعض المشاكل نتيجة للاحتكاك المباشر والتشاركية في المرافق ، والزحام القاتل بالعائلات مختلفة المنبت والجهة ، الذل والهوان كان أكبر مما أحتمله، ساحة السكن الكبيرة كانت ميداناً لعساكر النظام وشبيحته ، بحكم موقع السكن الذي يتوسط مقرات وتكتلات للجيش والأمن فالمدرسة العسكرية التي صارت مدرج للطائرات المروحية التي تنقل القيادات والمساجين إلى المطار ،تقع قبالة السكن ، وخلفه يقطن عصام زهر الدين الرجل الأول في قيادة الحرس الجمهوري والجيش الذي يقوم بكل العمليات العسكرية بالتعاون مع جامع جامع آنذاك وبالقرب من مقر زهر الدين يقع اللواء 113 كما أظن الذي بيده الحل والربط مدنياً ، الوضع كان خانقاً للكثير من العائلات التي انقطعت بها السبل فاضطرت للمأوى بالقرب من بيوتها التي احتلتها احدى الجهات المتقاتلة على بقعة مدينتي الصغيرة.
كنت كلما اضطررت لعبور حاجز الدلة للدخول إلى سوق الجورة أتعرض لشتى أنواع الاستهجان أو التحرش من العناصر الذين يتبدلون كل فترة ليأتي أقذر وأحط منهم ، نظراتهم الخسيسة، حركاتهم الممجوجة ، محاولاتهم في شراء مالايشترى ببعض المواد التموينية ، إذلال كان يدفعني للانهيار النفسي كل مرة ، كنت أخشى أن أنفجر يوماً فيدفع أطفالي الثمن غالياً.
بدأت الأمور تسوء أكثر ، بدأت الحاجة تنخر رأسي قبل أن تنخر أجساد أطفالي ، فعزمت على العودة من جديد إلى الداخل المحرر ، قبل أن يطبق القيد علينا وتنقطع الطريق إليه ، فما يصلنا من هنا وهناك يشير إلى أن أمراً ما سيحدث في القريب،وحدث ما كنت أخشاه فقد أعلنت داعش دولتها في الرقة وكان من المتوقع أن ينتقل الأمر بسرعة البرق إلى الداخل المحرر في دير الزور ، لكن الحاجة وضيق ذات اليد دفعتني للقرار السريع والعمل على العودة إلى بيتنا الذي هجرناه ( نموت جَوعَى في بيتنا أفضل ألف مرة من أن نموت أذلاء في مكان بائس يعج بالشبيحة وخنازيرالنظام، غرباء عن دارنا) توجهت مع أطفالي إلى المعبر مرة أخرى ، حاملين بؤساً لا ينتهي ، وبعد أن عبرنا الفرات وصرنا على اليابسة في الطرف الآخر سجدت لله هناك والحرقة تنهش صدري.
لم تكن الحميدية وغسان عبود كما هي الآن ، ولم تكن داعش قد مدت سطوتها كما هي الآن آنذاك ، كان الجيش الحر في عزه ، وكانت أمور القاطنين هناك مستقرة، دخلنا منزلنا الذي دمرت واجهته قذيفة غادرة وعزمنا على المكوث الطويل بعد أن عاينت مايحيط ببيتي ولُمتُ نفسي لتأخري في الرجوع، لم تطل فرحتنا فداعش يسطت نفوذها فجأة على المنطقة وانقلبت أمورنا مرة أخرى ، وبدأنا مرحلة جديدة سيئة في حياة أسرتنا.