لم يخطر لي يوماً على بال أنني سأغادر بيتي الذي أمضيت عمراً في تأسيسه ولم أكن أتصور أنني يوماً ما سأراه يباباً ، حطاماً كما رأيته آخر مرة قبل هروبي بهم( أطفالي ) إلى تركيا، كانت المظاهرات الكبيرة تتجمع في الساحة المقابلة لمنزلي في منطقة غسان عبود لتتوجه بعدها إلى المركز المتفق عليه بين الثوار .. وكان أطفالي يهيئون أنفسهم قبل المظاهرات ليرددوا الشعارات التي تنطلق من الحناجر المحمومة حينما تجتمع عائلتنا والجيران والأصدقاء يتابعون بشغف من سطح البناء مصفقين سعداء، هم أنفسهم الذين تناثرت أشلاؤهم من النوافذ والأبواب بعد سيل القذائف التي أطلقها النظام المجرم في أواخر أيار من عام 2012
لم تصطادنا أنا و أبنائي كما فعلت بجيراننا ، رغم أنها اقتربت كثيراً لكنها أودت بزوجي على خطوط النار ، مقبل غير مدبر، كتمت الأمر طويلاً خاصة وأن عساكر النظام سيطروا فجأة على النقطة التي نقطن فيها ، وجعلوا منها منطقة عسكرية ، لم يكن لي مكان أذهب إليه لذلك غامرت و بقيت في بيتي متحصنة بقذارتهم ، إذ سيتوقف القصف على المنطقة ريثما أجد لي مفراً
كنت اعلم انني في كل لحظة مع أطفالي مشروع مجزرة ، كان عساكر النظام يدخلون كل ساعة إلينا بحجة التفتيش ، نظراتهم الحقيرة كانت تدخل بين ثيابنا قبل بيتنا وكنت أحمد الله أن ابنتي لم تبلغ العاشرة بعد ، في الليل كنت أسترق النظر إلى أسفل البناء , ينقبض قلبي كلما قبضوا على واحد من المقاتلين او المارين أتنصت إلى ما يدور بينهم من حديث ، وأرتجف خوفاً عندما تعلو أصواتهم بالتهديدات والشتائم ثم ادعو الله أن يهدّهم ويخرجه سالماً من بين أيديهم، يرتجف صوت أم عبود ،يتهدّج ،تتوتّر كثيراً وهي تتابع حديثها ساهمة تستجمع ذكرياتها وتتابع:
أذكر كيف بقروا عيني أحد الثواروهو حي بدم بارد حينما قبضوا عليه في كمين ظالم ، صوته لا يغادر رأسي حتى اليوم ، وشتائمهم وجنونهم ودمويتهم تحفرفي ذاتي قرفاً وحقداً لا تطفئهما السنين
وبعد أن كنسهم الجيش الحر من المنطقة عاد القصف أقوى مما بدأ به أول الأمر ، انهيار الأبنية بالبراميل والقذائف خيم على المنطقة مع رائحة الموت التي لم تغادر صرت حينما يشتد القصف والاشتباك أكور أطفالي بزاوية الغرفة ثم أثقلهم بالبطانيات الكبيرة الكثيرة لكيلا يسمعوا الأصوات التي كانت تسيطر على المكان لكنني لم أستطع السيطرة على ارتجاف أرضية البيت التي كانت ترتج تحتنا من شدة القصف وانهيار البيوت المجاورة تحت هول البراميل
(ياسين والقرآن الحكيم …هيا يا أبنائي …نعيدها مرة أخرى )
وتحت جنح الظلام في أفق بارد صامت ,إلا من صوت الرصاص وهدير الطائرات كان يخرج صوتنا كجوقة خراف هاربة من ذئب أحمق ,نمعمع في توتر ووجل.
ثلاثة شهور يائسة رابطنا فيها لانغادر لكن انقطاع وصول المؤن والطعام ، وانعدام الحياة ، وحصار النظام للثوار وللمنطقة أصابنا بالوهن والجوع ، رغم أني كنت أتسلل إلى بيوت صويحباتي التي غادرنها هرباً أو استشهاداً فأتقوت وأطفالي بالفتات التي أجدها هنا وهناك،
أصيب اثنين من أطفالي باليرقان ، اصفرت سحنتهما ـ وخشيت عيى البقية من الموت ، فقررت المغادرة رغم عواقبها التي لم أكن أعرف ما تؤول إليه
لملمت أطفالي وانطلقت بهم إلى الحسينية تحت وابل من القصف الأعمى الذي لاحقنا حتى وصولنا إلى المعبر ..
غصتي كانت بحجم وطن و أنا أركب اليخت الصغير متوجهة إلى النجاة من الموت تاركة كل من بقي من جيراني وأبناء منطقي ومن الثوار المرابطين هناك ..
وخوفي الذي ظننت أنني هجرته إلى الأبد يتلبسني من جديد وأنا أدخل المنطقة الآمنة الباهتة التي ينتشر في أزقتها وشوارعها عساكر النظام.
مذكرات هاربة