في الوقت الذي بات انحسار تنظيم داعش يهدد بانهياره في محافظة الرقة كاملة، وبداية انهياره أيضاً في دير الزور، تحاول قيادات التنظيم الحفاظ على بعض مناصريها من العامة عبر أسلوب إصدار الفتاوى الناعمة، التي تعد شكلاً من الاعتراف الضمني أو الاعتذار غير المباشر عن جرائمه التي ارتكبها بحق العامة وحصدت آلافاً من الضحايا الذين أريقت دماؤهم من خلال فتاوى أصدرها القضاة الشرعيون.
أصدرت مؤخراً ما تسمى بهيئة الإفتاء العليا للتنظيم، التي تتخذ حالياً من مدينة الميادين مركزاً لها، فتاوى جديدة عدة اختلفت مع سابقها من الفتاوى، إذ إنها أحلّت أموراً وقضايا كان التنظيم قد حرمها سابقاً؛ كالإفتاء بعدم محاسبة الذين هم تحت سن 16 عام، والمساكين الذين لا يميزون بين الحق والباطل، بحسب زعم التنظيم. ويُضاف إليها إصدار فتوى تنص على عدم تكفير من هم خارج مناطق سيطرة التنظيم وعدم اتهامهم بالردة والكفر.
وبينما كان داعش يصر على شرط البيعة على المقاتلين الذين يريد الانضواء تحت قيادته أفتى التنظيم بجواز قبول المقاتلين بصفوفه من دون مبايعة التنظيم والإيمان بمعتقداته جميعها. كما يحاول التنظيم عبر فتاويه الجديدة تكفير الشرعيين السابقين للتنظيم، الذين قاموا بإصدار الفتاوى وأحكام القصاص بحق قاصرين ومدنيين أبرياء واعتبرهم “كفرة”.
وبذلك يعترف داعش بأن أكثر الذين قضوا على يد التنظيم أبرياء، ولم يكونوا مرتدين، وأن شرعيي التنظيم كانوا قد نظروا إلى الجانب الحربي حين أصدروا تلك الفتاوى على من هو داخل مناطق سيطرة داعش، وطبقوها على من هم خارج سيطرته أيضاً.
بالتوازي مع تلك الفتاوى أصدرت القيادة العليا لداعش قراراً يقضي بتأسيس لجنة من الشرعيين والأمنيين في المناطق التي يسيطر عليها التنظيم للتحقيق في الخروقات التي قد تحصل.
وتأتي هذه الفتاوى بعد هروب كبار ولاة التنظيم وشرعييه ومقتلهم، وتولي شرعيين جدد من أصول عربية (عراقية وسورية). ويترافق ذلك بحال عدم الاستقرار داخل مناطق التنظيم وخروج جزئي للناس عن سيطرة التنظيم المنشغل بالمعارك المندلعة ضده داخل المناطق التي يسيطر عليها.
أما الجهة المسؤولة عن إصدار القرارات المصيرية في التنظيم -كالفتاوى- فهي ما يسمى بـ “اللجنة الخماسية”، وتعد المحرك الحقيقي والحاكم المطلق في التنظيم، وتتألف من كبار الشخصيات المؤثرة في التنظيم ولها الكلمة العليا فيه، وفي السابق كانت تتألف من حجي بكر؛ وهو ضابط استخبارات عراقي سابق قتل في ريف حلب، وأبو علي الأنباري؛ وهو ضابط عراقي من منطقة تلعفر العراقية وقتل أيضاً في غارة أمريكية، والحاج عبد الناصر؛ وهو شخصية عراقية، ويقال أنه ضابط سابق أيضاً والمسؤول عن ملف بلاد الشام في التنظيم، وأبو عمر الشيشاني؛ وهو المسؤول العسكري في التنظيم وقد قتل هو أيضاً، بالإضافة إلى الشخص المعروف باسم أبو لقمان؛ وهو سوري ومسؤول أمني في اللجنة الخماسية.
ومنذ ظهور تنظيم داعش كقوة كبيرة حاول أن يستميل الناس من خلال اللعب على الوتر الديني، وقد استطاع أن يجذب إليه كثيراً من الشباب عن طريق الترهيب والترغيب، وأدخلهم في معسكرات مغلقة يخضعون فيها إلى دورات شرعية ودروس ما يسمى بـ “الولاء والبراء”، وهي عملية أشبه بالمسح الذهني لأولئك الأشخاص؛ ومن ثم يتم اختيار الأكفاء منهم وفرزهم إلى الاختصاصات التي يبرعون فيها: أمني، شرعي، إداري، عسكري، طبي…
سمح هذا الأمر للكثيرين أن يتغلغلوا داخل التنظيم ويصلوا إلى مراكز عليا فيه، ولاسيما فئة المهاجرين، وكثيرٌ منهم وصل إلى المركز الشرعي وهو مركز البحوث والإفتاء الذي أقيم في الرقة في مبنى فرع الحزب سابقاً بجانب المشفى الوطني، وهذا المركز كان مسؤولاً عن إصدار الفتاوى.
ويذكر أن أول فتوى صدرت كانت تنص على قتال حركة أحرار الشام، واعتبرت عناصرها من الصحوات المرتدة التي يجب قتالهم والخلاص منهم، قد أثارت تلك الفتوى ضجة كبيرة بداية العام 2014 خلال معارك السيطرة على الرقة، وقد أصدر تلك الفتوى المدعو أبو خالد الشرقي؛ وهو مصري الجنسية وهرب فيما بعد إلى جهة مجهولة، وكانت نتيجة تلك الفتوى مقتل مئات من عناصر أحرار الشام. من ثم بدأت الفتاوي بالصدور، ومنها اعتبار جميع الأراضي الواقعة تحت سيطرة الجيش الحر (أراضي ردة)؛ أي إنها أراضي لا تحتوي مسلمين، وبهذا يجوز تنفيذ عمليات فيها حتى وإن تسببت بقتل مدنيين. وصدرت أيضاً فتاوى تكفر المجالس المحلية وكل من يتعامل مع المنظمات الإنسانية باعتبارها منظمات كافرة غير إسلامية؛ وقد أصدر تلك الفتوى أبو حوراء الجزائري الذي وصل إلى مرحلة تكفير أيمن الظواهري، وكان يشغل منصب مدير معهد عائشة أم المؤمنين الشرعي في المركز الثقافي بالرقة، تم إعدامه فيما بعد بتهمة الغلو لأنه كفّر البغدادي. وتوالت الفتاوى بمنع السفر إلى خارج مناطق التنظيم، ومصادرة أملاك كل من يثبت سفره، ووصل الأمر إلى إصدار فتوى بوجوب خضوع الجميع إلى دورات استتابة شرعية باعتبارهم مرتدين يجب أن يتوبوا ويخضعوا لتلك الدورات حتى يعودوا مسلمين يحق لهم أن يسكنوا مناطق التنظيم، ومن لم يخضع إلى تلك الدورات تتم مصادرة أملاكه، وذلك عدا عن الفتاوى التي تسببت بمقتل مئات من المدنيين بتهم متعددة منها سب الذات الالهية أو ارتكاب “ناقض من نواقض الدين” أو التواصل مع التحالف أو قسد وقبلهما الجيش الحر.
يُذكر أنه في الآونة الأخيرة مع بدء وضوح خسارة داعش في الرقة وازدياد خسائره في دير الزور اختفى القسم الأكبر من أولئك الشرعيين، فمنهم من قُتل بغارات التحالف، ومنهم من هرب خارجاً، لذلك بدأ التنظيم يلجأ إلى أسلوب جديد يحاول من خلاله كسب عطف ورضى الأهالي عن طريق المراجعة؛ أصبح التنظيم يشعر أنه بحاجة إلى مراجعة شاملة لكسب ثقة الأهالي من خلال الظهور بمشهد أن ما صدر من فتاوى كان نتيجة تصرف عناصر عميلة لمخابرات خارجية استطاعت اختراق التنظيم وتسببت بمقتل كثير من الأبرياء، وأن أغلب الشرعيين الذين أصدروا تلك الفتاوى هم عناصر غير عربية لم تفهم طبيعة أبناء المنطقة وتصرفت بمنطق شخصي.