This post is also available in: English
الكثير ممن حمل السلاح لم يعرف السلاح يوماً، منهم من كان طالباً في السنة الأولى أو السنة الثانية من الكلية، لم يلتحق بالجيش ليعرف ما هو السلاح، ومنهم من كان مدرساً لا يتذكر من سنوات خدمته إلا الهدايا التي كان يقدمها لـ (المعلم) في قطعته العسكرية لتكون كفيلة بإنهاء سنوات خدمته العسكرية، دون أن يتم لقاء شرعي بينه وبين السلاح.
الثورة كانت لهم كأمهم التي لطمت من أيادي أبناء العمومة وأبناء الجيرة دون ذنب، كانت تستجدي حقوقها فحسب، تستجدي حريتها، تستجدي كرامتها، تستجدي ما تبقى من ضمير عند أولاد بلدها، لم يستطع أولادها أن يبقوا مكتوفي الأيدي وأمهم يُثخَنُ بها،رغم جهلهم بحمل السلاح , لكن هذا غير مبررلتركها تنزف وهم يتفرجون ,وقفوا أمامهم آثروا حمل السلاح حتى ولو كان مجرد زجاجة تحتوي (خرقة) وزيت , يدعى هذا السلاح الفردي موتولوف, نعم حملوه ليدافعوا عن حقهم الشرعي بثورتهم , كان ذلك التاريخ محفور بالذاكرة دير الزور, عندما تعدت قوى الأمن على حرمات البيوت في حي الجبيلة ,ذاع الخبر سريعا بين الأحياء, الغضب كان أسرع من الخبر ,أنا كنت قادما من دمشق في ذلك الوقت أتذكر أننا نزلنا في استراحة تدمر.
-المكان تدمر
– الوقت قبيل المغرب
كنا متجهين من دمشق إلى دير الزور عندما زلزل المكان خبر قادم من دير الزور وهو أن الناس نزلوا للشارع وأقاموا حواجز لإعاقة سيارات الأمن التي كانت تفترس المكان والأحياء، بدأ التساؤل والاستغراب والخوف على وجوه المسافرين ،بدت الحافلة صامتة صمتا مربكاً إلا من بعض رنات الجوالات القادمة، بالأخبار من دير الزور مع الساعة العاشرة ليلاً وصلنا ديرنا فكانت مختلفة كثيراً عما تركتها عليه ,إحساس بالوحشة قد انتابني عندما نزلت من الحافلة , الظلام يخيم على المكان،الناس يمشون في الشوارع لا يوجد ازدحام كالمعتاد و الشوارع متقطّعة، وصلت بيتي والأسئلة تكاد تتسابق مني لأعرف تفاصيل ما جرى, استقبلتني والدتي كعادتها بحنانها الذي كانت تستقبلني به كل مرة لم أجلس معها سوى بضع دقائق حتى سمعت التكبيرات تهز الحارة, سارعت بالنزول لأعرف ما يجري لم أرضخ لإرادة أمي وخوفها وخلال ثوان كنت في الحارة.
ما القصة؟ أجابني الشباب الله أكبر لقد جاءنا خبر مقتل جامع جامع انطلقت من لساني التكبيرات بدون شعور , جامع جامع قتل إنه انتصار للحق انتصار للثورة لم يمض على الخبر سوى ساعة حتى أصبح صوت الرصاص سيد الموقف الأمن يستعين بالجيش للهجوم على حي كنامات و (7) من الثوار توفر لديهم السلاح يتصدون له ,عشنا ليلتان بالدعاء لإخواننا السبعة مع طلوع النهار كان التجهيز لمظاهرة كبيرة انطلقت من المساجد إلى الساحة العامة وانقضت المظاهرة ليعود كل شاب لحارته ويقوم بمهمته ودوره بحماية الحاجز, لم يكن هناك سلاح لدينا ,قمنا بصناعة زجاجات المولوتوف التي حملتها بيدي طوال وقفتي بالشارع , بعض الشباب كانوا يملكون بنادق صيد (بونبكشن ) كانوا يساندوننا بسلاحهم النوعي آنذاك, المساجد كانت تصدح بالتكبيرات وتحث الشباب على النزول إلى الشوارع للتخفيف عن حي الجورة الذي استهدفه الأمن والجيش وعاثوا به فساداً, كان الجو غريبا علينا لم نعتد عليه بعد توتر وخوف من المجهول , إشاعات قتالية تصلنا تهديدات لمدة سبعة أيام كان الشارع بيتنا والحاجز مائدتنا والتحدي شعارنا, انقضت الأيام السبعة من وقوفنا على الحواجز , في اليوم السابع من الحواجز الساعة الثالثة فجراً كانت (دبابات جيش الوطن) قد بدأت بتحطيم أولى أجزائه وهي الحواجز، وتكشف همجية من كنا نعتقد بأنهم حماتنا , صبت مدرعات الجيش حممها على حي المطار القديم , وبالاخص جامع عثمان الذي كان رمزا ثوريا في المدينة , قذيقة دبابة غادرة أدت إلى اسقاط مئذنة الجامع, كان أول اعتداء على المساجد في تاريخ الثورة , وبها سقط آخر عهد بيننا وبين الجيش الذي كنا نتأمل أن يصحو ذات يوم ويقف إلى جانبنا , كان هذا الاعتداء الغابر على دير الزور بمثابة فتيل لحرب ضروس قادمة.
بعد مرور فترة قصيرة من هذه الأحداث، احتل الجيش النقاط الحساسة والمفصلية في المدينة , لم تغادر دباباته وعرباته شوارع المدينة , فكان وجودها بمثابة السوط الذي سيجلد به من يحاول أن ينطق بكلمة لها أي دلالة عن الحرية.
رغم كل الحصار الذي طبّق على حرياتنا حتى بالتنقل ضمن أحياء المدينة , لكن من تنفس الحرية وشعر بمذاقها لن تردعه آليات الجلاد , عادت المظاهرات إلى الشوارع تدريجياً, عادت شعارات الحرية لتخترق صمت السلاح الظالم , كنا نخرج بالمظاهرة سلاحنا الكلمة عتادنا الهتاف النابع من آلامنا , وكان الرد رصاص حي ودم يسيل من أخواننا وشهداء نزفهم عقب كل تظاهر , تشييع شهداء التظاهر كانت مظاهرات أكبر من المظاهرات العادية وغالباً ما كان الأمن والجيش يطلقون علينا الرصاص الحي فيسقط شهداء في تشييع الشهداء ,كان أيماننا أقوى من سلاحهم , وتمسكنا بثورتنا أكبر من جبروتهم , لكن القهر أيضا كان يكبر بسبب الظلم والقتل الذي نتعرض له , استمر هذا الحال ما يقارب الثمان أشهر, ضقنا بها ضرعا من مواجهة الأمن والجيش لهتافنا بالرصاص , كان اليوم جمعة عندما اتصل بي صديقي وقال لي أن المظاهرة اليوم بعد صلاة العشاء , على غير العادة , فعادة نحن نخرج بعد صلاة الجمعة , وقال لي أيضاً اليوم ستكون هناك مفاجأة ستسعدك , انتظرت الموعد بفارغ الصبر صليت المغرب وخرجت للحارة حيث كان المكان الموعود هو دوار غسان عبود , بدأ الشباب يتوافدون خلسة تراهم على مفارق الدوار الأربعة على شكل جماعات متفرقة , ينتظرون أول نداء للتجمع , لم ينقض وقتا طويلا حتى سمعنا “ديرية ديرية , حرية حرية” بسرعة البرق كان الكل كتلة واحدة وبدأ عرسنا الثوري , المفاجأة التي حدثني رفيقي عنها كانت بعد 10دقائق من انطلاق المظاهرة , ثمان شباب ملثمين يحملون سلاح فردي(كلاشنكوف – آربي جي – بي كي سي وخمس بواريد آلية نوع كلاشينكوف ) ,تقدموا باتجاه المظاهرة وحاوطوها ,ظهورهم لنا وسلاحهم بيدهم موجها لمن يريد الاعتداء على المظاهرة , كانت الدهشة المرتسمة على وجوه شباب المظاهرة سيدة الموقف , اضافة إلى شيء من القوة الذي وصلني من هؤلاء الأبطال , ومن هذا الموقف كانت شرارة الجيش الحر في دير الزور.