This post is also available in: English
كنا نقرأ عن الحنين للوطن في الروايات والقصص ونشاهده في الأفلام والدراما، لم يخطر ببالي مرة أن أعيش هذا الإحساس.لم أكن بعيداً عن ديرالزور، لاأزال ضمن حدودها لكنني أسير لهذا الشعور طوال فترة غيابي عن مدينتي وحارتي وحيّي، هذا الشعور كان متلازمة لكل أبنائها الذين أُخرجوا قسراً منها، بعد أن استقرت جبهات القتال وتركزت بمواضعها أصبحت المدينة أسيرة من كل جهاتها الأمن جهة واحدة، جهة النهر الأبي الوفي الذي لم يخذل أبناءه يوماً.
البعد عن ديرالزوركان أشبه بالمرض والوجد قاس ولابد من مداوٍ. والدواء وصالها، لكن السبيل إلى وصالها لم يكن مفروشا بالورود كما كان في سابق عهدها. فمن يريد الوصول إليها لابد أن يمر من معبر الموت. هو المعبر الوحيد للدخول إلى المدينة (جسر السياسية) كما سمته حكومة البعث منذ أجل ليس ببعيد. كنت يوميا أمر على هذا الجسر عائدا من عملي في إحدى قرى ديرالزور عندما كانت تقع عيناي على شجر الحويقة من خلف مياه نهرالفرات ومآذن الجوامع القديمة من بين سعف النخيل الباسق مع انعكاس أشعة الشمس عليها. كانت تتسلل قناعة إلى نفسي بأن هذه المدينة أجمل ماخلق الله. لم يخطرببالي يوماً أن أمربنفس المكان لأرى صورة لأجمل بقاع الأرض في نظري. قد تحولت إلى حجارة مهدمة وأشجارمكسورة الجناح تستغيث بظلام يلفها ويحتويها فلم يبق لها غيره. في هذا المقام أيقنت مامعنى اختلاط المشاعر. ليتسنى لك الوصول إلى قلب المدينة يجب أن تعبر جسر السياسية , الجسر لبس ثوبا مهترئا يخيل لمن لايعرفه أنه لباس رعب , فقد اكتسى بالسواد المطرز بالرصاص والقذائف التي تتموضع على صدره , نحن أبنائه نعرفه جيدا , لا ليس مخيفا هو الصديق الذي تجمعنا به حكايات عن الحب والجمال والحنين .
- الساعة الواحدة ليلا. الظلام كل ماتراه عينيك مع أصوات انفجارات وأزيز رصاص يقض مضجع الصمت المطبق، سائق السيارة يعلم ما عليه فعله من إجراءات الأمان”عليه أن يطفئ كل أضواء سيارته ويضع قطعة من الحديد المصفح من جهة الشباك المقابلة له ويحذر الركاب من إشعال أي ضوء، لأن القناص المتواجد على الجسر المعلق المحاذي لجسر السياسية يترصد أي ضوء ليقنصه. وكذلك القناص المتمركز على مبنى الخدمات الفنية في حي الحويقة”. بعد اتخاذ جميع اجراءات الأمان توجهنا باتجاه الجسر. لم أفتقد فقط تلك الأضواء التي كانت تنير الجسر. بل افتقدت ذاك المنظر الأندلسي الجمال، كان يسر العين ويبهج القلب. ذلك البهاء السرمدي الذي يحكي حتوتة عشق بين نهر وجسر ومدينة.
كانت طلقات القناص باتجاه سيارتنا كفيلة بأن تعيدني إلى الواقع وتحدد لي هدفي الآني وهو الوصول إلى حضن الدير. كان الوصول مصحوبا بعاصفة من المشاعر المختلطة. ما أتذكره أنه عندما حطت قدماي على أرض المدينة الحبيبة وتنفست هواءها، شعرت أنني بعثت منن جديد. الكثير من الأشياء كانت بانتظاري. لعل أهمها رؤية أصدقائي وإخوتي الذين كان لهم شرف البقاء في دير الزور.كان في انتظاري صديقي وأخي الذي أحبه كثيرا (محمد.ف). مضت أشهر كثيرة لم أره فيها.كان تواصلنا فقط عن طريق الهاتف وغالبا ماكانت قصيرة جدا بما كان الوقت يسعفه.كان اللقاء ابتسامة ودمعة وفخر واستقبال ووداع بذات اللحظة.تغير محمد كثيرا فقد أصبح رجلا مكتمل الصفات، جمع كل صفات الرجولة.”منذ صغره كان معروفا بقوة شخصيته وشجاعته، معروفا أنه (زكرت) لكن الظروف القاسية التي مرت به وبمدينته صيرته رجلا وجبلا بنفس الوقت ولم يكن قد تجاوز الخامسة والعشرون من العمر. لم ننم تلك الليلة فقد كان لديه الكثير من القصص والمواقف ليحكها لي. المعارك التي خاضهاوأجواء الحرب التي جرت بحارات الدير. القصف الدمار الجوع الحصار الشوق البكاء، كانت الأحاديث تتسابق “ضربناهم بدوار غسان عبود وطردناهم , كانت معركة حامية من الصبح إلى المغرب ونحن نقاتل واخيراًسيطرنا على الدوار” كان التشويق في حديثه يشد كل حواسي باتجاهه. السجائر وحدها ما كانت تشاركننا الحديث. ” سوف أتزوج يا أخي لقد طالت القصة ولم أكن اعتقد أنها ستطول هكذا. اشتقت لأهلي،أمي قداختارت لي عروساً وهي تنتظرني لتخطبها لي الأسبوع القادم. سأخرج بعض الأغراض من المنزل لأهلي وأزورهم وأخطب-قاطع حديثه عن المعارك ليخبرني عن خطوبته المرجوة-
كان الفرح مرسوماً على وجهه والابتسامة المرافقة للكلمات تحكي قصة أمل لا استطيع أن أصفها بحروف.أخذنا الوقت لم نشعر بمضيه إلا مع صوت المؤذن ينادي لصلاة الفجر، في الصباح جاء أحد الأصدقاء ليراني بعد هذه المدة. كنت مشتاقا للحارة فخرجت بصحبته لنقف في زاوية الحارة التي كنا نقف فيها في الأيام الخوالي. كان يحدثني بلهفة عن الأيام التي مرت على الدير والمعاناة التي عاشوها ليقطع حديثه صوت انفجار قوي جدا. قال لي يطمئنني “بعيدة لاتخف” ماهي إلا ثواني لنتفاجأ بجسم غريب جاء باتجاهنا ضرب عمود الكهرباء الذي كنت بجانبه ليستقر في ساق صديقي , لقد كانت شظية من قذيقة الهاون التي انفجرت في الحارة المجاورة. أسرعت إلى (م .ف) لأخبره وبدوره أسرع بركوب دراجته النارية ليتجه إلى صديقنا المصاب. أخذه بسرعة وانطلق به إلى المستشفى الميداني المعروف لديهم.لم تكن الإصابة خطيرة , عادوا بعد مرور ساعة بعد إجراء الإسعافات لساقه. جلسنا كلنا في غرفة آمنة في منزل (م .ف). لن أنس تلك السويعات القليلة وما رافق لحظاتها من ضحك هستيري. خمسة أيام وأنا بضيافة صديقي (م.ف) ليخبرني في مساء اليوم السادس أنه سيأخذ أغراض ويذهب إلى أهله. ساعدته في نقل الأغراض إلى شاحنته الصغيرة واتجه م . ف ليعبر إلى أهله عبر المعبر الوحيد جسر السياسية. الساعة الثالثة صباحا يرن هاتفي وبحديث ملهوف ومستعجل ” أين أنت ؟ أنا في الحميدية ؟ ماذا بك(م .ف) استهدفه القناص على جسر السياسية وهو الآن في المستشفى الميداني ” ذهول وشرود واستحضار لكلماته عن خطوبته رافقتني وأنا في الطريق للمستشفى.وصلت المستشفى وجدته ملقى على سرير في غرفة العناية المركزة هممت بسؤال الطبيب عن وضعه فأجابني بالجملة المشهورة ” لقد فعلنا مابوسعنا والباقي على الله، حالته صعبة فالرصاصة مستقرة في الجمجمة والأمل ضعيف جداً والأعمار بيد الله” ظل ثلاثة أيام وهو في غيبوبة. لقد أخذني معه في تلك الغيبوبةولم أتكلم إلا القليل طيلة الأيام الثلاثة.
كنت أعيش معه لحظات وصوله لأمه وتجهيزه لعرسه والفرح الذي كان مرتسما على تفاصيل وجهه. زففناه إلى أمه في اليوم الثالث من إصابته “استشهد” نعم ارتقى شهيداً على المعبر الذي كان يرى فيه سبيل الوصال مع أمه وأهله وعروسه. حصده الموت في وقت إجازته ولم ينله في معارك كثيرة خاضها، هذا ليس قدره وحده إنما هو قدر القلب والحنين والهوى.