خلقت المأساة التي صبت على رؤوس السوريين خنساوات كثر، سطرن بجلدهن و صبرهن أعظم ملاحم لن تتوانَ كتب التاريخ عن تناولها في المستقبل قرب أم بعد .
أم مهند المرأة الديرية الثلاثينية إحدى أولئك المناضلات اللاتي ستروى قصتها للأجيال القادمة كمثال للمرأة التي تأخذ دور الرجل في غيابه .
نزحت عائلة أبو مهند المكونة من الأم والبنات الخمسة والولد الأوحد والأكبر مهند ذو الأحد عشرعاماً من حي الحميدية بديرالزور عام 2012 بعد اشتداد القصف على المدينة إلى أحد أرياف ديرالزور، وهناك استأجروا منزلا مما أتيح لهم و دأبوا على التأقلم مع واقع النزوح الجديد.
لم يكن لدى أبو مهند الذي كان مدرساً أية مهنة يستطيع من خلالها كسب قوته وعائلته، فأجبر كما يفعل معظم الموظفون النازحون إلى العبور بإتجاه حيي الجورة والقصور حيث تسيطر قوات الأسد للحصول على مرتبه من مديرية التربية التي لاتزال قائمة آنذاك، لم يأخذ أبو مهند باعتباره إجرام قوات الأسد وظلمها جل ما فكر به هو الحصول على الوريقات النقدية التي تعينه في سد احتياجات أطفاله في ظل النزوح، فسقط فور وصوله إلى حي القصور في براثن قوات الأسد واعتقل دون معرفة تهمته التي لاتزال أم مهند تسأل عنها دونما جواب يرضي تساؤلاتها التي تعكر صفو حياتها .
نزل خبر اعتقال الرجل على الزوجة كالصاعقة، هي امرأة في ربيع العمر لم يكون لديها الرصيد الكافي من التجارب لتستطيع تحمل مسؤولية منزل بالآجار و ستة أطفال في ظل ظروف النزوح، لكن لم يكن لديها خيارات أخرى، بحثت أم مهند عن عمل يوفر لها ولأطفالها لقمة عيشهم و تمكنت من العمل في إحدى الورشات الزراعية بعد أن أخذت بعض الدروس في العمل من إحدى جاراتها التي عملت على مساعدتها .
مضت الأيام وهي ترسم على ملامح أم مهند خطوطاً تمثل أبجدية صبر وكفاح حالها حال كثير من السوريات اللواتي واجهن ظروف الحرب بقوة وصبر ورباطة جأش، تكفلت أم مهند بأطفالها أن تؤمن لهم حياة كريمة حتى لو كان الأمر على حساب شبابها و حياتها الخاصة، واستمرت بالعمل حتى قدوم تنظيم داعش إلى المنطقة، حيث قيد حركة النساء و منعهن من العمل في الورشات الزراعية لتتوقف أم مهند عن العمل وتقع ضحية الحاجة من جديد .
تقطعت بالمرأة السبل ثلاثة شهور وهي عاطلة عن العمل، تراكمت الديون و المتطلبات وليس بيدها حيلة، حتى سخر الله لها جارتها أن أمنت لها عملاً في محل لبيع الألبسة النسائية وملبوسات الأطفال، بعد أن أصدر تنظيم داعش قرار يمنع فيه الرجال من العمل بمحلات البضائع النسائية، كان العمل بمثابة نقطة الماء لهائم بالصحراء منذ زمن، أعانها المرتب التي تحصل عليه على الاستمرار في فصول الحياة القاسية.
استمرت المرأة الراضية بقسمتها على هذا المنوال حتى عام 2017 وتحديداً الشهر الثامن، حين أصدر تنظيم داعش قرار التجنيد الإجباري، دق ناقوس الخطر لدى أم مهند فولدها الوحيد مهند أصبح عمره 16 سنة والتنظيم لايفرق بين صغير وكبير ومجرد سماعها بخبر النفيرالعام والتجنيد العام ألغى لديها التفكير بأي خيار آخر غير الهروب بولدها وأطفالها حتى لايصبح ولدها هو الآخر ضحية للتنظيم كما كان والده ضحية لنظام الأسد .
حزمت المرأة شيئاً من الأمتعة و اصطحبت أطفالها بسرية فائقة و اتجهت قاصدة محافظة الحسكة المفر الوحيد من تنظيم داعش، استقلوا سيارتهم التي أمنها لهم المهرب وانطلقوا برحلتهم الصحراوية، لم ينقضِ على المسير أكثر من ساعة زمنية حتى باغتهم صوت انفجار هائل، دخلت السيارة بحقل ألغام زرعه تنظيم داعش هذا ما عرفته أم مهند لاحقاً، خلف الإنفجار مأساة بعائلة أم مهند التي دأبت على مداراتها بكل جوارحها لكن القدر هنا كان أقوى من أم مهند، توفت طفلتها الوسطى و أصيب مهند بشظايا شلت إحدى يداه و كسرت يد أم مهند و تمزقت بعض أعصاب يدها، تم اسعافهم إلى إحدى مشافي الحسكة وقدمت لهم إسعافات بدائية هناك وعلى عجل أخرجوهم من المستشفى و أودعوهم بإحدى مخيمات اللجوء التي تديرها قوات قسد ، لملمت المرأة جراحها الداخلية والخارجية وأصبح لديها هم وحيد هو الخروج من المعتقل والوصول بإبنها إلى تركية للعلاج، لم يكن بمقدور أم مهند دفع المبلغ المطلوب للخروج من المخيم بوقت مبكر، انتظرت حتى انقضت المدة المحددة والتي تجاوزت الأربعين يوماً لتخرج من المخيم و تصل بأطفالها إلى محافظة إدلب، وهناك استطاعت التواصل مع بعض أقرباء زوجها الموجودين في تركيا فقاموا بتزويدها بالمال اللازم للعبور إلى تركيا. استطاعت أم مهند من الوصول إلى تركيا بعد ستة محاولات للتهريب من الحدود السورية إلى الأراضي التركية، لتصل بإبنها إلى أحد المشافي التركية حيث أشرف الأطباء على علاجه لتتحسن إصابته بنسبة تجاوزت الثلاثون بالمئة .
تسكن أم مهند وأطفالها في غرفة استأجرتها في إحدى الضواحي التابعة لولاية من ولايات تركيا، تعيش فصلاً جديداً من مأساتها التي سطرتها عليها ظروف الحرب والنزوح، حيث يعمل مهند نادلاً في إحدى المقاهي ليؤمن ثمن آجار الغرفة وماتيسر من طعام لأخواته و والدته متناسياً هو وأخواته المراحل التي يمر بها الطفل والحقوق التي من حقه أن يحصل عليها في مراحل حياته ولعل أهمها حق التعلم حيث غابت عن الأطفال الستة أية عملية تعليمية في ظل الفقر المطبق على العائلة منذ سنوات.
وتبقى أم مهند خيمة نسجت خيوطها من الصبر والكفاح تلم أطفالها وتساعدهم على البقاء والإستمرار بانتظار حياة أجمل يقودها إليهم مستقبلهم كما تتمنى وتأمل .
بقلم:
رامي أبو الزين