لم يكن تحرك داعش نحو ديرالزور وسيطرته على أجزاء كبيرة منها اعتباطياً، فالتنظيم الذي غدا أغنى التنظيمات الإرهابية في العالم، أغوته رائحة النفط الآتية من هذه المحافظة الغنية منذ البداية، فسيطرته عليها ضمنت له أهم مورد لبقائه وتمدده إلى جانب مصادر تمويل أخرى ثانوية.
فبعد اندلاع الثورة خرجت مساحات شاسعة عن سيطرة نظام الأسد، كان من أبرزها ديرالزور التي تضم أغلب حقول النفط، وحدثت نزاعات ومعارك عنيفة بين المجموعات المقاتلة وبين العشائر جميعها تهدف للسيطرة على آبار النفط والحصول على المردود المالي الضخم. وكل جهة توظف ذلك التمويل في الاتجاه الذي يناسب أهدافها.
بعدها استطاعت جبهة النصرة توحيد عددٍ من القوى الفاعلة لتأسيس «هيئة شرعية مركزية»، اعتباراً من آذار 2013، وحاولت تنظيم العمل المحليّ في النفط وجعله أكثر عدالةً من وجهة نظرها وأقل ضرراً على الصحة العامة، متحاشيةً الصدام مع المستثمرين المسلحين في البداية.
كان لجبهة النصرة وحلفائها في الهيئة الشرعية عملان بارزان في قضية نفط دير الزور؛ الأوّل هو السيطرة على معمل «كونوكو» الضخم للغاز، بعد طرد المجموعات العشائرية المسيطرة عليه، التي اتسم سلوكها بالطيش والفوضوية مما عرّض اتفاقية الغاز مقابل الكهرباء مع نظام الأسد إلى الخطر، وأدّى إلى قطع الكهرباء عن المحافظة من جانب نظام الأسد في كلّ مرّةٍ تتوقف فيها إمدادات الغاز من المعمل. والثاني هو السيطرة على الموقع الرئيسيّ لحقل العمر النفطيّ بعد طرد قوات الأسد منه، في خطوةٍ استباقيةٍ من النصرة في إطار تنافسها، ثم صراعها، مع تنظيم داعش الآخذ بالنموّ والتوسع آنذاك.
لم تكن حكاية نفط دير الزور سوداويةً في جميع فصولها، إذ ظهرت ثلاث تجارب محليةٌ متفاوتة الأهمية لإدارة موارده وتسخيرها للمصلحة العامة في كلٍّ من: حقل التيّم النفطيّ، الذي أدارته هيئةٌ خاصّةٌ برعاية المجلس العسكريّ، ومصفاةٍ لتكرير النفط بحجمٍ متوسطٍ وفق اعتبارات السوق المحلية آنذاك، أدارها مجلس المحافظة (الثوريّ)، وبئر نفطٍ قريبٍ من بلدة الجرذي، تولت إدارته لجنةٌ خاصّةٌ برعاية مجلس البلدة المحليّ.
ومنذ سيطرة داعش على مدينة ديرالزور كان هدفه السيطرة على الثروات النفطية، النفط من أبرز أهداف تنظيم داعش في المحافظة وقد وضع يده على الآبار والحقول ونظّم استثمارها في ما أسماه “ديوان الركاز”.
أما الكادر البشريّ الذي تكوّنت منه هذه البنى فكان مجموعة من المدراء غير السوريين (المهاجرين)، قليلي الخبرة والمعرفة في أعمال النفط، يعتمدون في التسيير الحقيقيّ للأعمال على المتعاقدين مع التنظيم من السوريين، الذين كانوا يعملون في الحقول النفطية نفسها في الغالب، لصالح شركاتٍ خاصّةٍ أو مشتركةٍ مع القطاع العام المتمثل في وزارة النفط، أو حتى ممن لا يزالون على ملاك الوزارة أو هذه الشركات، وما زالوا يتقاضون رواتبهم من نظام الأسد، مما يضفي المزيد من الغموض على العلاقات بين التنظيم ونظام الأسد، في مجال النفط على الأقل.
رغم التكتم على الأرقام الكلية للإنتاج، وتفاوتها بين يومٍ وآخر، فإنه من الممكن، عبر جمع شهاداتٍ سرّيةٍ لمهندسين وخبراء كانوا يعملون في حقول المحافظة، وكذلك روايات عمالٍ وسائقي صهاريج نفط، التوصّل إلى حصيلةٍ تقدّر بحوالي مليوني دولارٍ يومياً. ويبدو هذا الرقم قابلاً للزيادة، مع تسجيل تذبذبات تبعاً لتغيّر الظروف.
يبقى الملف الأكثر إثارةً للفضول هو تعاون التنظيم مع نظام الأسد في ملفّي النفط والغاز، من خلال شركة أنيسكو التي يملكها رجل الأعمال جورج حسواني، صديق بشار الأسد، ومهندس الكثير من صفقاته النفطية مع التنظيم.
إن النفط كان ولا يزال أحد أهمّ العوامل المؤثرة في أوجه الصراع المختلفة في محافظة دير الزور، سواءً منها المتعلقة بالثورة على نظام بشار الأسد، أو تلك الناشئة بين القوى والتيارات العسكرية و السياسية، وكان يمكن للشريحة السياسية والعسكرية في مجتمع الثورة، وهي المسؤولة بعد خروج النفط عن سيطرة نظام الأسد، أن تدير هذا الملف أو أن تتدخل فيه بما يخدم المصالح العامة ويقلص من حجم الخراب الذي نزل بمعظم منشآته، قبل أن يقع في يد داعش الذي استثمرته بأوسع ما تستطيع لتغذية حروبها ونشاطاتها المختلفة.