اتخذت قراري بمغادرة منزلي في حي الجورة بعد حملة التجنيد الاجباري التي شنتها قوات الأسد في آواخر عام 2015 حيث كثفت دوريات الأمن أو الشرطة العسكرية التابعة لقوات الأسد من عمليات الدهم والاعتقال والسوق الاجباري إلى جبهات القتال.
لم يكن الخروج من حيي الجورة والقصوربالأمر السهل فقوات الأسد تفرض إقامة جبرية على كل السكان هناك يستثنى من تلك الإقامة من يستطيع دفع مبلغ كبير من المال لأحد الضباط التابعين لقوات الأسد لايقل عن 400 ألف ليرة سورية.
لم أكن من تلك الشريحة التي تستطيع دفع مبلغا كبيرا كهذا، فاعتمدت على بعض المعارف التي تتقاضى مبالغا أقل من ضباط قوات الأسد وبعد محاولتين باءت بالفشل استطعت الخروج من حي الجورة بدفعي مبلغ 250 ألف ليرة سورية لبعض عناصر ميليشيا الدفاع الوطني وبعض سماسرة حواجز قوات الأسد.
بعد رحلة محفوفة بالخوف والترقب على حواجز قوات الأسد استمرت لثلاث ساعات برفقة السمسار الذي رافقني حتى آخر حاجز لقوات الأسد لأزعم في قرارة نفسي أني نلت حريتي وبعثت من جديد، لم أتكهن بأن رحلة الخروج هي بداية رحلة طويلة ستسمر لعشرات الأيام .
وصلت عند أول حاجز لتنظيم داعش في قرية عياش ظهراً، كنا حوالي 60 شخصاً، استقبلنا عناصر الحاجز استقبالا حافلاً بالصراخ والكلام المسيء فنحن بنظرهم مرتدين خارجين من دياركفر، قاموا بعزل النساء عن الرجال وبدأوا بالإجراءات الأمنية التي بدأت بتفتيش هواتفنا النقالة و انتهت بتمزيق دفاتر الخدمة العسكرية لكل من كان يحملها مع كثير من الجمل التوبيخية التي أشعرتني لوهلة أنني فعلاً كافر وأنا الذي أحفظ مايزيد على أربعة أجزاء من القرآن الكريم عن ظهر قلب، بعد الانتهاء من التفتيش قاموا بوضعنا بسيارات و اقتادونا باتجاه قرية معدان، وصلنا إلى معدان حوالي السادسة مساءً وضعونا في مدرسة وبدأ التحقيق معنا من جديد لكن هذه المرة بمستوى أعلى حيث تم استجوابنا و تفتيشنا من قبل جهاز الحسبة في معدان وطلبوا منا اخراج كل ما لدينا من أوراق.
ثم وزعوا لنا أوراق بيضاء وطلبوا من كل شخص أن يكتب أسماء لعشرة أشخاص من قوات الأسد والميليشيات التابعة لها المتواجدين في حيي الجورة والقصور بتفاصيل دقيقة تتضمن الاسم أو الاسم الحركي ،الفرع الذي يخدم فيه ، متطوع أم مجند، العشيرة التي ينتمي إليها وحتى اقربائه, أصابتني الدهشة من هذا الطلب، ومثلي من كان بجانبي حيث نظرنا إلى بعض وعيوننا تطرح أسئلة عجزت ألسنتنا عن ذكرها لرهبة الموقف، لكنا كنا مجبرين أن نكتب حتى ولو اخترعنا أسماء من ضرب الخيال لأن من رفض الكتابة كان مصيره الضرب والتنكيل بتهمة التستر على الشبيحة.
بعد الانتهاء من هذا الإجراء قاموا بنقلنا إلى مدرسة أخرى في معدان كانت تضم مايقارب 500 شخصاً نمنا تلك الليلة على الأرض بدون أي فراش أو اي قطعة قماش تفصل أجسادنا عن الأرض، أخبرنا المسؤول عن المدرسة الأشبه بالمعتقل أنهم سيقومون بإجراء دورة استتابه لنا مدتها سبعة أيام، من ينجح في تجاوز امتحان الدورة سيؤذن له بالمغادرة ومن يحاول الهرب سيكون حكمه القصاص.
في صباح اليوم التالي وزعوا لنا منهاج الدورة وكان عبارة عن ثلاث أوراق واحدة عن فتوحات الدولة الاسلامية في العراق والشام”تنظيم داعش” والثانية عن نشأة الدولة والثالثة عن نواقض الإسلام.
انقضت أياماً خمسة و نحن في الدورة المغلقة في المدرسة المهجورة, لنتفاجئ مساء اليوم الخامس في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل تحديداً بقدوم عناصر من التنظيم ليخبرونا أن علينا مغادرة المدرسة فوراً فقد جائتهم إخبارية أن التحالف سوف يقوم يقصف المدرسة, ماهي إلاّ دقائق حتى أفرغت المدرسة من جميع من فيها لنهيم على وجوهنا في منتصف الليل في قرية لا أعرف فيها أحداً, و بقيت الأوراق والأغراض المصادرة لدى جهاز الحسبة.
نمت تلك الليلة في العراء وفي الصباح توجهت إلى مركز الحسبة لأسأل عن أوراقي فأخبروني أن علي العودة بعد عشرين يوماً، لم أكن أعرف أحداً في تلك القرية لذلك كان علي التوجه إلى مدينة الميادين حيث أن هناك أقارب لي في تلك المدينة فور وصولي إلى مدينة الميادين قمت بمراجعة مركز الحسبة هناك حتى لا اتعرض إلى الملاحقة من قبل عناصرهم فأخبرني عناصر الحسبة في الميادين أن علي أن أخضع لدورة استتابة خاصة لأنني خارج من ديار الكفر فأرسلوني إلى مدينة البوكمال قمت بدورة استتابة لمدة أسبوع في مدينة البوكمال وفي نهايتها سألني جهاز الحسبة عن حاجتي لها فأخبرتهم أنني خارج من حي الجورة وأريد السفر إلى تركيا فقال لي أن هذه الدورة صادرة عن ولاية الفرات وأن أوراقي في ولاية الرقة لذلك ينبغي أن أخضع لدورة استتابه في ولاية الرقة.
عدنا أدراجنا إلى مدينة الميادين ، كنا أكثر من مئتي شخص ذهبنا إلى المكتب الدعوي في مدينة الميادين وكان باستقبالنا أبوعبد الرحمن المسؤول عن المكتب لم نكن موفقين بمقابلة أبا عبد الرحمن فقد كان يحمل في قلبه غلاً وكأننا كفار بحق وهو رجل الله ليقيم الحساب علينا وقد عبر عنه بجملة لن أنساها ماحييت حين قال” لولا قرار أمير المؤمنين بالعفو لكنت نفذت حكم القصاص بكم جميعا” أيها المرتدون الخارجين من بلاد الكفر لم يستطع أحداً منا الرد على ذلك المتغطرس ظل الصمت يكتم أفواهنا فقط كلمات أبو عبدالرحمن تغير على مسامعنا كالرصاص دون أن نحرك ساكن حتى قاطع هجوم المسؤول دخول رجلاً بدا أنه ذو شأن لدى داعش عرفنا آجلاً أنه يدعى أبو همام الأثري.
جاء الدور إلى أبو همام الأثري ليكمل ما بدأه أبو عبد الرحمن، كان الأمر مختلفاً لدى أبو همام فعندما كان يتحدث و يسأل لم يتبادر إلى ذهني إلاّ أنّه رجل استخبارات من الطراز الرفيع يقف أمامنا فقد كان ينطق بمعلومات تفصيلية دقيقة يعجز عنها إنسان عادي أو عنصر في تنظيم داعش، فهو يعرف أصغر فصائل الجيش الحر وقاداتها وعدد عناصرها و يعرف أسماء جميع قادة الفصائل المسلحة بما فيها أحرار الشام وجبهة النصرة علاوة عن إلمامه بالدوائر الحكومية وأسماء رؤسائها وفروعها والعشائر والوجهاء والترابط بينها.
تفاصيل يكمن بها الشيطان ذكرها ذلك الرجل الأربعيني المحنك بلباسه العسكري “الإسلامي”، كانت مهمة أبو همام الجلوس مع كل واحد منا على حدى وجمع أدق المعلومات التي يمتلكها تحت مسمى دورة استتابة استمرت لمدة أسبوع كامل في مسجد قباء في مدينة الميادين.
بعد انقضاء الأسبوع الإستخباراتي بإمتياز منحنا ورقة عليها صورة شخصية ورقم شخصي ختمت من المكتب الدعوي والمساجد, في المكتب الدعوي وقبل ختم الورقة اشترطوا علينا الخضوع لفحص شفهي قبل ختم الورقة يقوم به أبو خباب المغربي ( الأحدب ) المعروف لدى أبناء الميادين بظلمه وشدته، في مقابلة أبي خباب يجب أن تكون هارب من مسلسل تاريخي كي تنجح بالامتحان الشفهي فالثوب يجب أن يكون مرتفع فوق الكعبين, الذقن طويلة, الشارب مجذب, الأظافر مقصوصة، استطعت تجاوز الامتحان بصعوبة اصطحبت الورقة إلى أبو عبد الرحمن لكي يختمها لي لكنه رفض من جديد ذهبت إلى أبو همام الأثري طالباً المساعدة فاصطحبني أنا واثنين إلى الوالي الذي تكلم بدوره إلى أبو عبد الرحمن ليقوم الأخير بعرقلة جديدة و هي أن دورة الاستتابة يجب أن تتم في المكان الذي أخذت فيه بطاقتنا الشخصية، اتجهنا إلى منطقة التبني الواقعة بين عياش ومعدان قاصدين مركز الحسبة لأسأل عن أوراقي الشخصية فلم يكن لدي أي شيء يثبت شخصيتي فطلبوا مني العودة بعد يومين، بعد اليومين رجعت إليهم طالباً البطاقة فقالوا لي أن المسؤولين عن هذا الأمر على الثغور وعليك العودة بعد أسبوع، عدت إلى الميادين لمقابلة الوالي عسى أن أستطيع أن اجد حلاً لهذة المعضلة وأنا بانتظار دوري لدى الوالي دخل ابو همام الأثري ليتعرف علي وبعد حوار قصير قال لي أن أمير الاستتابات عامة في الدولة الإسلامية حضر إلى الميادين سأسطحبك للقاء به، ذهبت برفقة أبو همام إلى دار الأمل لليتيمات حيث يوجد أمير الإستتابة, كان الأمير أبو رعد الجزراوي بانتظارنا بعد أن كلمه أبو همام عن طريق جهاز الإرسال اللاسلكي, دخلنا إلى مكتب أبي رعد الذي لم يتجاوز من العمر ال 26 عاماً قابلني أبورعد وبعد أن شرحت له وضعي قال لي أستطيع أن أساعدك بحالة واحدة أن أدخلك بدورة استتابة مع المنشقين عن الجيش الحر و جبهة النصرة فما كان مني إلاّ أن وافقت على الفور أملاً بالخلاص.
أمر أبو رعد الجزراوي باصطحابي إلى مقر تابع لهم وهناك تم اعطائي ورقة تتضمن أسئلة عن أفراد عائلتي بالتفصيل وأقاربي وإن كان لي أحد من أقاربي في الدول الأوربية وإن كان لا يزال يصلي أوعن أقارب لي مع قوات الأسد أو الجيش الحر بعد الإجابة على الورقة قابلني عنصر يحمل جهاز كومبيوتر محمول وأعاد علي ذات الأسئلة المحملة على الورقة ليقارن إجاباتي على الورقة بإجاباتي الشفهية, بعد الانتهاء من هذا التحقيق أعطوني ورقة لألتحق بعد يومين بدورة استتابة في المدرسة الصناعية في الميادين بعد يومين التحقت بالدورة المقامة بالثانوية الصناعية كانت الدورة الشرعية عبارة عن غسيل أدمغة للمقاتلين المنشقين إصدارات على شاشات كبيرة معدة للعرض وأحاديث معدة لاستنهاض الهمم والحث على مبايعة الدولة الإسلامية في العراق والشام”تنظيم داعش” والقتال في صفوفها.
بعد مرور أربعة أيام من دورة الاستتابة تقدمت باتجاه أبورعد الجزراوي وقلت له أنني مدرس و لست مقاتل وليس لي علم بمنهج القتال وأنني دخلت الدورة من أجل الحصول على أوراقي الشخصية للعبور باتجاه مناطق الجيش الحر الذي سيقوم بسجني إن لم يكن لدي أي أوراق تثبت شخصيتي، بعد استجداء عاطفة أبو رعد منحني ورقة أستطيع بموجبها الحصول على بطاقتي الشخصية وجواز السفر وشهادتي الجامعية أخذت ورقة الاستتابة الممهورة بختم أمير الاستتابة واتجهت باتجاه التبني إلى مركز الحسبة أظهرت لهم ورقة الاستتابة، فرفض مسؤول الحسبة هناك إعطائي أوراقي وبعد نقاش دار بيننا أمر بحبسي لمدة يومين أخرجوني بعدها لأعود إلى الميادين قاصداً أبورعد الجزراوي واخبرته بماحدث معي غضب أبورعد وأرسل معي كتاباً يأمرهم بإعطائي أوراقي عدت إلى مركز الحسبة في التبني ولحسن حظي لم يكن المسؤول الذي قام بحبسي في المرة الماضية موجوداً فاستطعت الحصول على أوراقي أخيراً وعلى الفور انطلقت باتجاه مدينة الرقة.
وصلت إلى مدينة الرقة عصراً استكمالاً لرحلتي التي انقضى عليها مايزيد على 35 يوماً أوقفنا الحاجز الأول عند مدخل مدينة الرقة وبعد استجوابنا قال لنا أمير الحاجز أن علينا الخضوع إلى دورة تسمى بدورة للهجرة إلى بلاد الكفر تبسمت باستهجان داخلي غير معلن وسألته عن المكان الذي يجب أن أقصده للخضوع لتلك الدورة وانطلقت باتجاه المقر لأقدم إفادتي كما في مثيلاتها من المرات السابقة و يتم اخضاعي لدورة شرعية استمرت لأسبوع في أحد مقرات التنظيم في مدينة الرقة أعطوني في نهايتها ورقة يسمح لي من خلالها بالخروج من مناطق الدولة الإسلامية “تنظيم داعش” مكتوب أسفلها ( صالح لمدة 15 يوماً).
لم ينته الأمرهنا فكان علي تصديقها من الحسبة في الرقة ثم من أمير الكراجات ليؤذن لي بالسفر بعد المرور بتلك المراكز غادرت الرقة باتجاه حلب ولدى آخر حاجز وتحديداً في منطقة ” احرص” أوقفنا حاجز للتنظيم وطلب ورقة مصدقة من مركز الحسبة في مدينة الباب، ذهبنا إلى مدينة الباب فأخبروني أن المركزية في مدينة منبج وأن علي الاتجاه إلى هناك للحصول على تلك الورقة، لم يكن لدي خياراً آخر استقليت حافلة واتجهت إلى مدينة منبج وصلت إلى مكان الحسبة حيث يتجمهر آلاف البشر ممن ينتظرون الحصول على ورقة تشابه ما أصبو الحصول عليها.
في مركز حسبة منبج وجدت شرطاً جديداً للحصول على تلك الورقة البغيضة وهو أن يكون لديك عمل تعزيزي و هو حفر خنادق لمدة ثلاثة أيام في مطار كويرس العسكري.
سلمت نفسي لهم للقيام بالتعزير فنقلونا إلى مكان الحفر وبقيت ثلاثة أيام في منطقة عسكرية لم أحلم يوماً أنني سأتواجد بهكذا مكان، انقضت الثلاثة أيام التي تعادل ثلاث سنوات بطولها واستطعت أخيراً الحصول على إذن الخروج من بلاد الدولة الإسلامية”تنظيم داعش”، اتجهت باتجاه الحاجز الأخير للأمنين الفاصل بين مناطق سيطرة تنظيم داعش و مناطق سيطرة الجيش الحر حاملاً بجعبتي مجموعة الأوراق التي حصلت عليها من دوائر التنظيم في ولاياته المختلفة خلال الخمسون يوماً، تقدمت إلى أمير الحاجز وأعطيته مجموعة الأوراق وكلي ثقة أنني مستوف جميع شروط الدولة الإسلامية وجامع لكل الأوراق المطلوبة للسفر, أثناء تقليبه للأوراق سألته بكل ثقة أليست هذه كل الأوراق المطلوبة؟ فأجاب: نعم هي كاملة أصابني شعور بالطمأنينة أن حلمي أقترب من التحقق نظر إلى أميرالحاجز بإزدراء وفوقية وقام بتمزيق الأوراق وأنا انظر إليه بدهشة يرافقها ألم وغضب وحزن وكثيراً من الحقد انتهى من تمزيق الأوراق بعبارة ” عزة المسلم ببلاد المسلمين ” عدت إلى القرية القريبة من الحاجز أجر أذيال الخيبة وكلي إصرار على الخروج من مناطق سيطرة التنظيم ليسخر لي الله رجلاً قام بتهريبي من منطقة قريبة من الحاجز على دراجته النارية مقابل مبلغ بسيط من المال لم أصدق نفسي عندما تجاورت سيطرة تنظيم داعش و هل حقاً قد زال هذا الكابوس، هل نجوت من لعنة التنظيم الذي يدعي الإسلام والعدل، هل انقضت تلك الخمسون العجاف؟ كلها اسئلة كنت أطرحها على نفسي وأنا ادخل مناطق الجيش الحر ومع حلول المساء وصلت إلى مدينة ( إعزاز ) بريف حلب لتنتهي مأساة الخمسون يوماً في غياهب تنظيم داعش.
مقال بقلم:
رامي أبو الزين