لم يعد أمامي خيار سوى الرحيل عن دياري وأهلي، فالموت أحسبه يقترب من أطفالي شيئاً فشيئاً، الطائرات لا تفارق سماء المدينة، وعناصر داعش ماضين بتضييق الخناق علينا،سكينهم على رقابنا تتحرك عندما يخالفهم أحدنا ولو برأي.
لم يكن قرار الرحيل بالأمر السهل، فالخروج من بيتي و تركي لعملي أشبه بخروج الروح من الجسد، توكلت على الله وأخذت بالأسباب وحزمت أمري، كان يتوجب عليي اتخاذ عدة تدابير قبل السفر، اتفقت مع أحد الأشخاص الذين يعملون بسرية تامة في مرافقة من يريد الهروب من أراضي سيطرة التنظيم عبر طرقات خاصة آمنة بعيدة عن أنظار عناصر التنظيم، طبعا مقابل مبلغاً مادياً يتجاوز المئة وخمسون ألف ليرة سورية بعدد من القطع النقدية من فئة الألف ليرة كحبة مسك زائدة عن المبلغ المتفق عليه علها تكون كفيلة بأن تزيد من اهتمام المهرب بضمان سلامتنا، تم الإتفاق مع الرجل على تاريخ وساعة الإنطلاق من المدينة باتجاه ريف حلب الشمالي، وسرعان ماحان الموعد، حزمنا أمتعتنا وانطلقنا فجراً، كان هناك اجابات متفق عليها بيننا أنا والمهرب وأفراد عائلتي لأسئلة متوقعة من قبل عناصر من التنظيم على بعض الحواجز التي لابد من العبور منها، كانت الإجابات هي أننا مسافرون إلى مدينة الرقة بغرض التبضع وشيئاً من التجارة كوني أعمل بتجارة المواد الغذائية.
الساعات تمضي وكذلك المسافات والخطة تسير على مايرام، لم يخلو الأمر من بعض المضايقات التي خلفت شيء من الخوف والتربص والتوتر داخلي من قبل عناصر التنظيم على بعض الحواجز التي واجهناها في رحلتنا، مع غروب الشمس كنا قد وطأنا ثرى مدينة الباب آخر معاقل سيطرة التنظيم والسراط التي يتوجب علينا عبوره للوصول إلى بر الأمان.
في مدينة الباب تنتهي مهمة رجل ال15ـألفاً وتبدأ مهمة رجلاً من معارفه من مدينة حلب الذي يعمل بتهريب الناس من الباب إلى مناطق الجيش الحر، كان يدعى أبو ابراهيم، تواصلت مع أبو ابراهيم عبر الهاتف فأعطاني عنوانه وتوجهنا إليه على جناح السرعة أملا باستكمال الرحلة والخلاص بنفس هذه الليلة، لكن الصدمة كانت عند وصولنا إلى أبو ابراهيم حيث أخبرنا أن علينا المكوث لعدة أيام، لأن عناصر التنظيم استنفروا هذا اليوم وهم مشددين جداً من خلال نشر دوريات طيارة على كامل مناطق التماس، اصطحبنا أبو ابراهيم إلى منزل لنرتاح فيه ريثما يحين وقت مسيرنا، كان المنزل يحوي عشرات العوائل التي تصبو إلى عبور حدود دولة داعش المزعومة ويعيقها نفس عائقنا، أتذكر أنني لم أستطع النوم تلك الليلة رغم تعبي لعدم توفر مكان يستوعبني للنوم، فقضيت الليلة رفقة بعض الشباب في باحة المنزل نتبادل القصص والتجارب التي خاضها كل واحد منا.
انقضت الليلة ومثلها ليلتان ونحن بين جدران المنزل، في الليلة الثالثة، وفي العاشرة مساءً بالتحديد جاء إلينا أبو ابراهيم ليخبرنا أننا سننطلق بعد قليل فور وصول الدراجات النارية، جهزنا أنفسنا و ركبنا مع بعض الشباب الذين يعملون مع أبو ابراهيم و انطلقنا، مضى على مسير الدراجات مايقارب الساعة لنتفاجئ بدورية لتنظيم داعش لم يكن المهربون على دراية بها، أوقفنا عناصر الدورية ودون السؤال قاموا بعزلنا عن أصحاب الدراجات الذين لم أعرف مصيرهم حتى هذه اللحظة، مع بعض الأسئلة التحقيقية اقتادتنا الدورية إلى مقر ليس ببعيد عن مكان وقوفها، لكنه طويل جداً بالنسبة لي لما دار برأسي من أسئلة و ماعانيته من خوف وتوتر خلال الدقائق التي فصلتنا عن الوصول إلى المقر، لم تتأخر كثيراً الإجابات.
ففور وصولي إلى المقر أدخلونا إلى غرفة يوجد فيها أمير المقر، كان رجلاً ضخماً بلحية طويلة وشعر أشعث النظر إليه لا يبعث للطمأنينة، كان جالساً وراء مكتبه وعندما مثلنا أمامه قام من مكانه وتوجه نحوي وسألني؟ إلى أين كنتم هاربين ؟ فأجبته بقوة لم أعرف من أين اجتاحتني نحن قاصدين تركيا، فرد : ولماذا تترك أرض الجهاد وتذهب إلى بلاد الكفر فأجبته على الفور: بتُّ أخاف على أطفالي من الطيران الذي لا يفارق سمائنا، هنا استشاط غضباً وقال لي وهل أرواحكم أغلى من أرواحنا؟ ونادى أحد العناصر وقال له : تعال وأره الموت ! لم أخمن ما هو مصيري فكل شيء متوقع لدى عناصر داعش كما أعرفهم، أمسكني العنصر من يدي وأبعدني عن عائلتي قليلاً ثم جلب صاروخاً صغيراً غير منفجر ووضعه تحتي واستل قنبلة من جعبته ووضعها داخل قميصي وهو يصرخ تريد الفرار من الموت أيها المرجف قسماً لأجلدنك، لم أرد بحرف واحد كل ماكان يشغلني نظرات زوجتي ودموعها وصرخات أطفالي الفزعين من هول مايجري لوالدهم.
أمسك العنصر أداة تشبه العصا معدة للجلد، وبدأ بجلدي أمام زوجتي وأطفالي وأنا أكتم ألمي كي لا أزيد خوف زوجتي وأطفالي ، انتهى من الجلدة رقم خمسون ليقول لي خذ عائلتك وانصرف وإذا أمسكتك مرة أخرى تحاول الهرب سوف أقطع رأسك، اصطحبت عائلتي و الذل والإنكسار قد لبسني من رأسي حتى أخمص قدمي، لكنه زادني إصراراً على مغادرة الأماكن التي توجد بها هذه الكائنات المجردة من أي معنى للإنسانية، رجعت إلى مدينة الباب وهنالك استأجرت غرفة أقمت بها أنا وزوجتي وأطفالي، سردت قصتي لصاحب الغرفة الذي تعاطف معي وقام بجلب أحد المهربين إليّ، بعد الأسئلة الكثيرة التي وجهتها له والتطمينات التي قدمها لي اتفقنا أن مساء غدٍ سننطلق إن شاء الله، وفعلاً انطلقنا في الموعد المحدد لكن هذه المرة سيراً على الأقدام، وحدها وقع خطواتنا وصمت الليل يتسيد المشهد، أكثر من ساعتين من السير المتقطع يرافقه الحذر الشديد، قاطع ذلك الصمت المخيم على، وفجأةَ سمعنا صوت انفجار قوي قريب منا خلّف كتلة كبيرة من الغبار ليتبين عند زوال الغبار أن كلباً شارداً قد دعس على لغمٍ دفنه عناصر داعش، أصيب أحد الأشخاص من الذين كانوا برفقتنا وأقرب للإنفجار بجروح طفيفة لم تعيقه من استكمال المسير، أكثر من 22كم انقضت لنسمع صوتاً من أحد الأشخاص يبشرنا أننا صرنا بالأمان، أتذكر أنني وضعت طفلي الذي كنت أحمله أرضاً وسجدت شكراً لله أننا تجاوزنا هذا الكابوس الذي صار له سنوات يقض مضاجعنا، تابعنا المسير لنتفاجئ بزخات من الرصاص تمر من فوق رؤوسنا صاح المهرب انبطحوا ولا تخافوا إنها إشارة من الجيش الحر على أن لا نتحرك ونبقى مكاننا بعد قليل سيأتوا لأخذنا، دقائق قليلة وإذ بأضواء سيارات تقترب منا نزل العناصر بجاهزيتهم العسكرية والسلاح مصوب نحونا واصطحبونا إلى مقرهم، وبعد تحقيق دقيق مكثف أخلوا سبيلنا فتوجهنا نحو مدينة اعزاز ومنها من إلى الريف الإدلبي الذي أقمنا به مايقارب العشرون يوماً عشنا خلالها مغامرات مختلفة في محاولات للعبور تجاوزت الأحد عشر محاولة فشلت جميعها لننجح في الثانية عشر بالعبور إلى تركيا بعد أن قضينا 27 يوماً من التشرد و دفع النقود حيث قدر المبلغ الذي أنفقته حتى وصلت تركيا مايقارب المليون ونصف ليرة سورية دفعتها مقابل هجرتي من أرضي وبلدي وأهلي هرباً من موت فرضه علينا نظام الأسد و شاطرهم المهمة تنظيم إرهابي أرانا أنواع العذاب والموت.
مقال بقلم:
رامي أبو الزين