تحت أشعة الشمس الحارقة صيفاً وفي البرد القارس شتاءاً، تعمل “فاطمة” وأخريات لساعات طويلة في مصنعٍ لإعداد المواد الأولية للبناء، في مدينة الحسكة، حيث يمتهن “العتالة” التي تفوق قدرتهن الجسدية، وتشاركن الرجال في حمل الأشياء الثقيلة لقاء مبلغٍ زهيد جداً لا يكفيهن قوت يومهن لإعالة عوائلهن.
تقول فاطمة 23 عاماً:
“ليس لدينا معيل، ووالدتي مريضة جداً وأخوتي صغار بحاجة إلى طعام، أجبرتني الظروف الصعبة على العمل هنا لساعات طويلة دون توقف لقاء 1000 ليرة سورية في اليوم الواحد “.
ولا يختلف الحال كثيراً عن الأربعينية “أم عبدالله” فهي الأخرى قد أجبرتها الظروف على العمل في تلك المهنة الشاقة.
تقول أم عبد الله:
“أعمل كالرجال، لقد فقدت زوجي أثناء المعارك الدائرة في المنطقة، ولديّ 3 أطفال، أعمل هنا منذ عامين تقريباً، ورغم ذلك لا أستطيع تأمين كل مايحتاجه أطفالي من طعام ولباس”.
وتشتكي فاطمة والعاملات معها من استغلال التجار لهنّ، حيث يعملن لساعات طويلة دون توقف لقاء 1000 ليرة سورية يومياً، وهو مبلغ زهيد جداً لقاء تعبهن كما يتعرضن لانتقادات لاذعة من المجتمع المحيط بهنّ.
نظرة المجتمع
تلجأ الكثير من النساء للعمل في المهن الشاقة، غير آبهات لنظرة وانتقادات المجتمع لهن، وذلك بسبب الظروف الصعبة التي يعانين منها، جرّاء ماخلفته الحرب، فنجد منهن من يعملن بمهن ذكورية، تتطلب قوة جسدية كبيرة لا تليق بهن بحسب أعراف وتقاليد المجتمع، كالعتالة والنجارة والطلاء والحدادة وصيانة الهواتف النقالة وتصليح الأدوات الكهربائية أو السيارات وقيادة سيارات الأجرة أوالشاحنات.
هدية عساف 19 عاماً من بلدة باقلا في ريف القامشلي، افتتحت محلاً خاصاً بها لصيانة الأدوات الكهربائية.
بيديها المتعبتين الناعمتين تمسك هدية المفك وتبتسم وهي تصلّح غسالة قائلة: “لم يكن لدي رغبة في إكمال دراستي، عملت جاهدة على إيجاد فرصة عمل مناسبة لي كأنثى لكن دون جدوى”.
وتكمل: ” قررت الالتحاق بمركز (الشهيد علي مبارك) للشباب والتنمية من ثم افتتحت محل لصيانة الأدوات الكهربائية، وتعلمت قيادة الدراجة النارية أيضاً فهي تساعدني كثيراً في إنجاز العمل بوقت أسرع والوصول في الوقت المناسب”.
وكغيرها من الفتيات اللواتي عملنّ في مهن ذكورية تواجه “هدية” استهجان المجتمع إضافة إلى تشكيكهم في قدرتها كأنثى على تصليح الغسالات والبرادات لكنها لم تكترث لذلك وأثبتت جدارتها بقوة.
وتقول هدية: “أنا لا أكترث لما يقوله الناس عني، والدي يشجعني ويساندني دائماً ويحترم رغبتي بالعمل بتلك المهنة أنا الآن فتاة قوية وناجحة وأعيل أسرتي وهذا أمر يسعدني جداً “.
أما أم أحمد 28 عاماً نازحة من مدينة دير الزور في مدينة الرقة، وأم لطفلين فقدت زوجها في الحرب، فقد امتهنت النجارة، تقول أم أحمد: “التحقت بدورة لتعلم مهنة النجارة في منظمة (وفاق)، ومن ثم تمكنت أنا وشقيقتي من التواصل مع إحدى المنظمات الإنسانية في مدينة الرقة، وقمنا باستئجار محل لفتح ورشة النجارة بمبلغ وقدره 10 آلاف شهرياً وبدأنا العمل”.
وتضيف” لقد واجهت انتقادات كثيرة في البداية لكن يوماً بعد يوم بدأ الناس من حولي بتقبل الفكرة وبمساندة وتشجيع والدي استطعت تجاوز جميع العقبات”.
تحديات وعوائق
يواجه قسم كبير من نساء شرق سوريا الكثير من العوائق والصعوبات التي تمثلت بنزوحهن وفقرهن وفقدانهن للمعيل، لكن رغم ذلك فهنّ لن يتوقفنّ يوماً عن العمل من أجل قضيتهنّ، وأظهرنّ شجاعة كبيرة وصبراً عالياً وتأقلماً سريعاً مع كل الظروف والمتغيرات.
كما شهدت النظرة العامة للمجتمع تجاه النساء عموماً تطوراً طفيفاً مؤخراً، فالسياقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية جعلتهن يقتحمن كل مجالات العمل وذلك للبحث عن لقمة العيش.
فأصبح عمل النساء في مهن ذكورية أمراً مقبولاً اجتماعياً نوعاً ما، نتيجة ثقل الأعباء الاقتصادية حيث تقاسمت الكثير من النساء مسؤولية الأسرة المادية أو إعالة أسرهنّ بشكل كامل في حالة بطالة أو وفاة أو مرض الزوج أو الأب كما تسلم بعضهن مناصب قيادية ﺗﺠﻠﺖ ﺑﺸﻜﻞ ﻭﺍﺿﺢ ﻓﻲ الانضمام للمجالس المحلية في المنطقة.
لا تتوفر إحصاءات رسمية أو لمنظمات عن عدد النساء اللواتي يعملن بمهن ذكورية، لكن وصلت نسبة النساء العاملات في سوريا خلال السنوات الماضية إلى 60% بزيادة أكثر من 20% عمّا قبلها.
ويعود تزايد النساء في سوق العمل بشكل عام إلى فقدان المعيل لمئات الأسر أو لتزايد معدلات الفقر في البلاد.
بقلم: مايا درويش