بقلم الكاتب :
محمد حسان
بعد أشهر من المعارك الطاحنة مع تنظيم داعش ، تمكنت الميليشيات الإيرانية وحزب الله اللبناني بالاشتراك مع قوات الأسد من السيطرة على مدينة البوكمال في أقصى شرق محافظة ديرالزور على الحدود السورية – العراقية، محققةً بذلك إيران حلمها، بفتح طريق بري يربطها بالبحر المتوسط ولبنان مروراً بالعراق وسوريا.
إيران التي دفعت بثقلها العسكري في معركة البوكمال، لم تكتفي كعادتها بالمشاركة عبر أدواتها حزب الله اللبناني والميليشيات العراقية والأفغانية، بل حظيت المعركة الاستراتيجية بمشاركة إيرانية مباشرة عبر الحرس الثوري الإيراني، ويشكل رقم القتلى الإيرانيين في المعركة حجم الاهتمام الإيراني بالمدينة والتي دفعت ثمنه المئات من عناصرها.
سيطرة المليشيات الإيرانية على المدينة، جاء بعد شهر من المعارك مع تنظيم داعش في المدينة ومحيطها، تقدمت فيها القوات المهاجمة من محورين رئيسيين، الأول من جهة محطة T2 في البادية الجنوبية للمدينة والذي تكفلت به مليشيات حزب الله اللبناني وقوات النظام، أما المحور الثاني والرئيسي كان من داخل الأراضي العراقية المقابلة لمدينة البوكمال، تولت العمليات العسكرية فيه قوات من” الحرس الثوري” الإيراني ومليشيات عراقية محسوبة على إيران.
القوات المهاجمة للمدينة بالرغم من انقسامها على محورين ووجود قوات النظام كـ طرف فيها، إلا أنها كانت تدار من غرفة عمليات مشتركة بقيادة إيرانية يمثلها الجنرال قاسم سليماني، الذي قاد عملية السيطرة على المدينة مع مجموعة ضباط من الحرس الثوري.
تكلفة معركة البوكمال كانت عالية، حيث خسرت فيها إيران والمليشيات المساندة لها أكثر من 200 قتيلاً والعشرات من الجرحى، بينهم قياديين من الحرس الثوري الإيراني مثل خيري الصمدي مستشار قاسم سليماني وقادة ميدانيين من حزب الله اللبناني وآخرين من مليشيات عراقية، إضافة لمقتل أكثر من 150 عنصراً من قوات الأسد وجرح آخرين.
دعم إيران للمعركة لم يقتصر على القوى العسكرية البرية فقط ، بل قامت بدفع التكلفة المادية لها بشكل كامل، وشهدت المعركة سباقاً محموماً بين الإيرانيين والأمريكان على المدينة، حيث حاولت الولايات المتحدة الأمريكية بدفع حليفها قوات “سوريا الديمقراطية” لمحاولة التقدم والوصول إلى المدينة لقطع الطريق على إيران.
محاولات أمريكا وحليفها قوات “سوريا الديمقراطية” بآت بالفشل لأسباب عدة، أولها تردد الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت قد أبرمت اتفاقا مع روسيا لتقاسم محافظة ديرالزور، بحيث تكون مناطق جنوب النهر لنظام الأسد وحليفه الروسي والإيراني، بينما تكون مناطق شمال الفرات لقوات ” قسد ” وحليفها الأمريكي، هذه التردد منبعه تخوف الأخير من ردود فعل روسية على نقض هذه الاتفاق في حال التقدم إلى المدينة الواقعة جنوب الفرات .
فيما تشكل مقاومة تنظيم داعش لتقدم قوات “سوريا الديمقراطية”، في قرى خشام وجديد عكيدات شرق ديرالزور، وقيام قوات الأسد بالعبور إلى الضفة الشمالية لنهر الفرات وسيطرتها على قرى حطلة ومراط والصالحية وحصول مواجهات مباشرة مع “قسد”، أسباباً إضافية ساهمت في تأخير تلك القوات من الوصول إلى منطقة جغرافية قريبة تجعلها منافساً للسيطرة على البوكمال، على عكس الطرف الأخر الذي تقدم عبر أسلوب الوثب تاركاً مناطق واسعة بيد التنظيم في ريف ديرالزور الشرقي، ليصل إلى أطراف المدينة مستفيداً من وجود حلفائه في الشق العراقي المقابل ما ساهم بحسم المعركة لصالحهم.
الاهتمام الإيراني بمدينة البوكمال، جاء من كون المدينة ذات موقع استراتيجي كـ أحد نقاط الوصل البري بين سوريا والعراق، التي كانت تشكل أخر الفرص المتاحة أمام إيران لفتح ممرها البري الذي تحلم به، هذه الاهتمام زاد بعد فشل إيران بالتقدم والسيطرة على منطقة التنف التي تشكل المثلث الحدودي السوري – العراقي – الأردني، التي كانت تحاول جعل هذه الممر من تلك النقطة، لكن وجود قاعدتي التنف والزكف العسكرية الأمريكية وقيام التحالف الدولي بحمايتها، وقصفه للمليشيات التي حاولت التقدم والسيطرة على تلك النقاط في أكثر من مناسبة عام 2017، جعل عيون إيران تتجه إلى البوكمال.
انتصار إيران في البوكمال، مكنها من تحقيق حلمها الذي تسعى له منذ عام 1979، بفتح ممر بري يصلها بالمتوسط ولبنان عبر العراق وسوريا والذي كانت أخر حلقاته مدينة البوكمال السورية، التي شكلت السيطرة عليها اكتمال لهذا الطريق، الذي كان لسنوات طوال أهم المخاوف العربية والإقليمية .
حيث تستطيع المليشيات الإيرانية الآن، التنقل بكل أريحية من إيران مروراً ببغداد ومنها إلى مناطق غرب العراق ثم العبور إلى سوريا من مدينة البوكمال ومنها إلى المدن والمحافظات السورية جميعاً وصولاً إلى البحر المتوسط ولبنان، حيث يوجد حليفها حزب الله ، الذي سينعم بالدعم العسكري والبشري أضافة لحرية تنقل لعناصره بين تلك الدول من غير رقيب ولا حسيب، ولعل جولات قاسم سليماني وعناصر الحرس الثوري بين سوريا والعراق خير مثال على ذلك.
فتح الممر البري لم يمر كأي حدث، بل قامت إيران من خلاله بإرسال العديد من الرسائل السياسية إلى أعداها قبل حلفائها، بأنها في سوريا ولن تستسلم حتى تحقق جميع أهدافها بالهيمنة على المنطقة، و ما تم تحقيقه في سوريا من نصر سيكون نصيب حلفائها في اليمن وغيرها من المناطق العربية.
الانتصار الإيراني في البوكمال يُثير مخاوف أمريكية كبيرة، أولها تنامي الدور الإيراني في الملف السوري والذي لطالما حاولت أمريكا الحد منه، التخوف الثاني، يكمن في احتمالية وصول الأسلحة الإيرانية إلى حزب الله في لبنان، الذي يشكل تهديداً لحليف الولايات المتحدة الأهم في المنطقة إسرائيل.
الولايات المتحدة يبدو أنها لن تترك النصر الإيراني بدون منغصات أو حتى محاولة إنهائه وهذه ما تُظهره الوقائع على الأرض، فبعد حسم معركة البوكمال بدأ الحديث عن وجود هدنة بين قوات سوريا الديمقراطية وتنظيم داعش في مناطق شمال نهر الفرات لمدة شهر قابلة للتجديد، ويبدو أن الجانب الأمريكي الذي نفى علمه بهذا الأمر، يحاول استخدام التنظيم بطريقة غير مباشرة لقتال إيران في البوكمال عبر هذه الاتفاق، الذي سيريح التنظيم من جبهات القتال شمال الفرات، ما يجعله متفرغاً بشكل كامل لجبهات جنوب الفرات وخاصة محاولة استعادة البوكمال، هذه الأسلوب استخدمته الولايات المتحدة ضد الروس في محافظة ديرالزور قبل أشهر بعد عبورهم إلى مناطق شمال الفرات المخصصة لأمريكا وحليفها قوات “قسد”، وكان الرد الأمريكي وقتها عبر غض النظر عن أرتال التنظيم التي عبرت من العراق عبر البادية إلى سوريا و التي هاجمت مناطق جنوب ديرالزور وشرق حمص، وسيطرة عليها بعد أيام من سيطرة النظام والروس عليها وتكبد فيها الأخير قتلى وجرحى إضافة لثلاث أسرى روس.