خاص – ديرالزور 24
حرب طاحنة لم يسلم منها الحجر ولا البشر، ست سنوات وهذه الحرب تدمر ماتستطيع تدميره في ديرالزور، تعدد أطرافها كان سببا رئيسيا في تنوع أشكال الدمار.
استطاعت أدوات التوثيق من آلات التصوير والأقلام وغيرها أن توثق حجم الدمار في المنازل والمرافق العامة وأن تحصي عدد المصابين والجرحى إلى حد كبير، لكنها عجزت وتعجز عن رصد حجم الضرر النفسي والأذى الفكري الذي خلفته الحرب وأطراف الصراع على أهالي دير الزور الذين لا يزالون صامدين إلى هذه اللحظة.
يعيش أهالي دير الزور في قسميها المحتلين من جهة قوات الأسد ومن جهة تنظيم داعش منذ أكثر من عامين، ظروفا قد تختلف بتفاصيلها لكنها تتشابه في شدة ألمها وانعكاساتها على النفس.
كان على المجتمع المدني الديري أن يتأقلم مع ثقافة الحرب التي فرضت عليه، فالقابعين تحت قبض قوات الأسد وحلفائه من الفصائل الشيعية ذات المنطلق العقائدي توجب عليهم أن ينسجموا مع ثقافة الإجرام التي يمارسها أتباع الأسد في تنفيذ أحكامهم التعسفية التي لا تستند لأي قوانين انسانية.
وعلى بعد بضع أمتار عنهم يوجد من هم مجبرون على التعايش والتأقلم مع نظم وقوانين تنظيم داعش القائمة على مبدأ الترهيب بإراقة الدماء والرجوع بعجلة الحياة إلى عصور أشبه بعصر الجاهلية.
هذه التداعيات الفكرية والنفسي ألقت بضلالها على الجميع هناك في ديرالزور، لكن الشريحة الأكبر تضررا من هذه التداعيات هم أطفال دير الزور المحاصرين، فماهي طبيعة الحياة التي يعيشها هؤلاء الأطفال؟ وماهي الضغوط التي تمارس عليهم؟ وماهي التغيرات التي من الممكن أن تحل بهم؟.
يقول الأستاذ أحمد شيخاني في كتابه الأطفال والحرب ،،الطفل إنسان يتطور وينمو على مختلف الأصعدة الاجتماعية والثقافية والأخلاقية والروحية، والتجارب التي يمر بها خلال فترة نموه تترك الأثر الكبير على الطبيعة التي سيكون عليها عند الرشد،،.
يعيش أطفال ديرالزور حيا تكاد تخلو من أي حقوق إنسانية وأقل ما توصف به أنها حياة قاسية تسلب منهم طفولتهم، فهم هدف للقتل بجميع أنواعه سواء بقذائف قوات الأسد وطيرانه مع حلفائه التي تستهدف الأحياء التي يسيطر عليها تنظيم داعش في المحافظة، أو بقذائف داعش التي تنهمر على الأحياء التي تقع تحت سيطرة الأسد.
من ينجو منهم من الموت بالقذائف، فإنه لن ينجو من الخوف الذي يرافق سقوط القذائف وغارات الطيران والهلع الذي تخلفه، هذا الخوف المعتاد من شأنه أن يترك مرضا نفسي في شخصية الطفل زواله ليس بالأمر السهل.
يفتقد أطفال ديرالزور لأبسط حقوق الطفل المنصوص عليها في قوانين الأمم المتحدة والمنظمات التي تعنى بالطفل كحق التعلم واللعب والرعاية الصحية والعيش الآمن، حيث أن نسبة 90 بالمئة من أطفال دير الزور حرموا من مدارسهم منذ أكثر من سنتين والسبب هو اغلاق داعش لجميع المدارس في مناطق سيطرته، إلى جانب حرمانهم من التعلم، فقد أطفال دير الزور البيئة الملائمة للعب وتوسيع مداركه وتفريغ طاقاته، فبات الطفل حبيس المنزل في أغلب الأوقات يعاني من الكبت وضغوط الأهل التي تحد من حريته في اللعب.
أما في الجانب الصحي فيعاني قسم كبير من أطفال دير الزور من الأمراض الناجمة عن سوء التغذية ويعزى السبب لعدم توفر الغذاء والدخل الأسري المتهاوي إضافة إلى تفشي بعض الأمراض السارية مثل اللاشمانيا والتي يصعب التعامل معها بسبب نقص الأدوية , وفي الجانب الآخر يعاني الأطفال في مناطق داعش من عدم حصولهم على اللقاحات الطبية التي تكافح أمراض سارية كالسل وشلل الأطفال وغيرها.
عدا عن الأذى الجسدي والنفسي والنمائي الذي يتعرض له أطفال ديرالزور في هذه الظروف , فإن هناك عامل خطير جدا قد لا تظهر آثاره الكارثية في هذا الوقت، حيث تتأثر منظومة القيم بشكل كبير في ظروف الحروب والنزاعات المسلحة، فيصبح مفهوم مثل العدالة والسلوك الأخلاقي مرتبطا بعلاقته بواقع العنف الإجتماعي الذي يسود في الحرب، لتذهب قيم كانت سائدة وتحل محلها قيما جديدة.
فأطفال دير الزور المجبرين على رؤية مشاهد دموية لتنظيم داعش في تنفيذ أحكامه كالقتل وقطع الأعضاء ويعايشون غطرسته في تطبيق أحكامه بقوة السلاح، سيترتب عليهم تغيير في أفكارهم في فهم معنى العدالة وتطبيق القوانين في المستقبل وسيكبرون على قيم فرضها عليهم مجتمعهم الجديد، وليس ببعيد عنهم فإن الأطفال في مناطق قوات الأسد يعيشون ضمن مجتمع عسكري تعلوه القبضة الأمنية ويسوده ممارسات الغطرسة واستخدام السلطة بقوة السلاح وفرض عنصر الرهبة بين المدنيين، ما سينعكس على أفكارهم وقيمهم بقيم جديدة كحب السلطة، والثأر، والاستبداد، وممن الممكن أن تكون هذه القيم لدى الأطفال قيم سامية ومنهج حياة مستقبلية.
الأطفال همم مستقبل أي بلد، والحرب وإن طالت ستنتهي، داعش وقوات الأسد إلى زوال، لكن ما سيتبقى جيل من الأطفال مهدم نفسيا ومعنويا، إن لم يتم العمل وتكثيف الجهود لإيجاد حلول إسعافية قد تنقذ جيلا سيكون عماد ديرالزور في السنين القادمة.