This post is also available in: English
ستة أشهرمضت وأنا جالس أراقب مدينتي وهي تنزف , كان الفرات هو الفاصل بيني وبينها , وكأنه الأب الذي يمنعني عنها كي لا أتأذى , كنت أجلس على ضفافه وأشاهد ماتعانيه الحنون ديرالزور , ستة أشهروالنيران تلتهمها والحمم تتساقط عليها , كانت هذه الشهور تكتب حقبة زمنية جديدة في تاريخ المدينة , فقد أصبح لديها جيش من أحرار أبنائها يغسل عار سنين من الذلة والعبودية , ويواجه جيش الأسد الطائفي الذي كشر عن أنيابه وعن نواياه , حرب حقيقية شنها الجيش الأسدي على المدينة , مسخراً لها ترسانته العسكرية كاملة , دباباته تقصف , مدافعه تضرب , طائراته تغير وتلقي جحيمها على المبانِ والشوارع.
في تلك الشوارع كانت تُكتَب الملاحم , كتائب الجيش الحر كانت تسطر قصص للبطولة ستبقى خالدة بذاكرة أبنائها , كانت أعداد مقاتلي الجيش الحر قليلة جدا , عشرات الشباب الذين ذاقوا ظلم الطاغوت , وحملتهم حميتهم ليخوضوا حرب موت أو حياة مع هذه العصابة الغاصبة , الكثير من شباب الثورة الذين قادوا الطور السلمي للثورة غادروا المدينة لأكثر من سبب , منهم من لم يصل إلى قناعة كاملة بشرعية حمل السلاح , منهم من كان يعتقد أن الأمر لن يتجاوز الأيام وستعود الأمور إلى سابق عهدها ويعود إلى مزاولة تعبيره عن الحرية بالتظاهر , ومنهم من كان مجبر بالخروج لأنه المعيل الوحيد لأهله لكنه خرج جسدا وترك روحه عند محبوبته ديرالزور وقلبه مع أصدقائه الذين ظلوا يحرسون مدينتهم , كنا ننتظر ماينقله بعض الأصدقاء الذين أخذوا على عاتقهم نقل مايجري داخل الأحياء المشتعلة للخارج , كانت الأخبار تتوالى والمشاعر والأحاسيس كلها داخل أسوار المدينة مع أبطالنا المتواجدين فيها , الطالب أصبح مقاتل والمعلم أصبح مقاتل والطبيب أيضا مقاتل , التغت جميع الصفات , اليوم الجميع في خندق واحد , في خندق الحلم السرمدي الذي ترجم إلى واقع , خندق الحرية .
محمد .ح شاب في العشرينيات من العمر , تجمعني فيه سنوات عشناها في نفس الحارة , كانت الضحكة عنوانه في حياته محمد كان مع طلائع الشباب المتظاهر , كان يصور المظاهرات , ويقوم بتحميلها على شبكات التواصل الاجتماعي , لم ينم في بيته منذ شهور طويلة , فقد كان مطلوب لفروع أمن كثيرة , هو إرهابي كبير في نظرهم وثائر بطل في أعيننا, ينقل الحقيقة عبر الانترنت , كل اسبوع هناك مداهمة لمنزل أهله من قبل أجهزة الأمن والشبيحة أملاً أن يلقوا القبض عليه, ويسكتوا أحد الأفواه التي نادت بالحرية.
ظل محمد يعيش حياة التشرد قرابة الستة أشهر , بعيدا عن أمه وأبيه واخوته وحارته وجيرانه , في بداية العمل المسلح , كان محمد من أوائل من حمل السلاح في المدينة , ونذر نفسه لقتال عصبة الأسد , كان محمد أحد الأبطال الذين بقوا ضمن أسوار المدينة في بداية القتال , كنت أتواصل معه بين الحين والحين , من خلاله كنت أعرف مايجري في حارات مدينتي الأسيرة ,لم يعد محمد ذاك الشاب العشريني الضحوك المتأنق , محمد أصبح أكبر من عمره , كلامه قوته اندفاعه تحليله للأمور كانت تسبق عمره , انقطعت أخبار محمد فترة حين اشتد القتال , لم يكن هناك أي تواصل مع شبابنا في الداخل , كنت أتابع ما يدور في الدير من شاطئ الفرات , فقد شاءت الظروف أن أنقل أهلي إلى بيت آمن في قرية حطلة على شاطئ النهر مباشرة , انخفضت أصوات التفجيرات التي كانت تضرب المدينة , هدأ صوت الرصاص , حل الهدوء فجأة , كانت عيناي تلاحظ الدخان والنيران المتصاعدة من البيوت التي كان لها نصيب من القذائف المتساقطة.
عندما رن هاتفي , كان أحد الأصدقاء المتواجدين على ساحات القتال , ” بشراك , لقد حررنا حارتين من العرضي , فرحتنا لا توصف , الله أكبر , لكننا ودعنا عدد من إخوتنا الذين قدموا أرواحهم ثمنا لذلك , محمد .ح استشهد ” الذهول والصمت وقليلا من دموع العين كانت سيدة تلك اللحظات , شهيد , لم أتقبل الفكرة أبدا فقد كنا جدد على ثقافة الفقد , لكن الخبر أكيد , استشهد محمد , التأقلم مع الفكرة أخذ أيام عدة , وبدأ شيء من العزم على الثأر لدم محمد يتسلل إلى داخلي , مع كل شهيد كان يرتقي , كانت مجموعات من الشباب تدخل المدينة لمؤازرة إخوانهم المحاصرين , لم يمنعهم إغلاق مداخل المدينة عن هدفهم , اكتشفوا طرق جديدة للوصول , منها عبور نهرالفرات من القرى المقابلة للمدينة , والمشي لعدة كيلومترات من طرقات نائية للوصول إلى ثغرة يعبرون منها إلى حضن ديرالزور , وبدأت شوكة الجيش الحر تقوى شيئا” فشيئا” , حتى أصبح ند قوي للجيش الأسدي بترسانته الجبارة .